الحروب والمسافة.. صفر

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. ندى أحمد جابر
حينما تُصبح المسافات بلا أرقام.. يسكت الكلام.. وتكثر الأسئلة..
حينما تُهدم البيوت فوق رؤوس أهلها، تُقتل نساؤها وأطفالها وتتصدر نشرات الأخبار عبارة تشبه الأسرار.. «المسافة صفر».. نسأل كيف تُحسب المسافات؟
على الشاشات نُشاهد صواريخ وطائرات ودبابات.. تُحيرنا تلك العبارة أين نضعها؟ في يأس القهر أم في بطولة النصر؟
تقول كتب التاريخ إن الشجاعة والبطولة وحسم نتائج الحروب كانت تتم من المسافة صفر.. هناك كان السيف والسهم والرمح أهم العتاد العسكري للأبطال. أما مدى المسافة التي يتطلبها القوس فكانت تتراوح بين 165 و228 متراً تقريباً، حدث ذلك قبل ألف عام.
وجاء اختراع المدفع ليؤثر في شكل وأساليب الحروب. وبحسب الموقع الإلكتروني (How Stuff Works)، عندما وصلت المدافع والبنادق إلى ساحات المعارك تغيرت الحروب وانتقلت بالقتال إلى مرحلة المسافات البعيدة لتحمل للجنود البشائر السعيدة.. قتل أكثر ومخاطر أقل بالأرواح. أول ظهور للمدافع التي تحفظ المسافات الآمنة كان عام 1320 في إيطاليا. كانت الأهم لأنها أكثر فتكاً وأقل تكلفة بشرية للجنود، ومن مسافة بدأت من 827 متراً وتطورت لتصبح 30 كلم في أقصاها.
أما البنادق فظهرت في القرن الـ15 برغم استمرار الرماح في القتال لقرون طويلة قال المؤرخ العسكري في جامعة بوسطن (كاثال نولان): «إن البنادق أوقفت الأرستقراطيين وأجبرتهم على النزول عن جيادهم».. ويضيف: حتى وصل العالم إلى استخدام الأسلحة الذرية (أي الأسلحة التي تستطيع محو أثر جيوش وبلدان بكاملها). منذ تلك اللحظة أصبحت الحروب تُركز على الأسلحة القاتلة والسريعة ومن المسافات البعيدة القادرة على إبادة الشعوب بكبسة زر.
أما القتال عن قرب فهو معركة من مسافة قصيرة، هي (بحسب ويكيبيديا) مفهوم تكتيكي يتضمن مواجهة جسدية في مسافة قصيرة جداً. وقد يكون الاشتباك بأسلحة بدائية الصنع وقد يكون بالأيدي. وفي سيناريو القتال القريب، يحاول فيه المهاجمون الاستيلاء السريع على مركبة يُسيطر عليها العدو. لهذا فالقتال القريب يتطلب هجوماً سريعاً وتطبيقاً دقيقاً.. ويُعتبر القتال عن قرب مُرادفاً لحرب المدن التي تُستخدم فيها عادة أسلحة خفيفة ومضغوطة يُمكن لشخص واحد حملها واستخدامها بسهولة في الأماكن الضيقة.
هنا يجدر بنا أن نذكر من ابتكرها وهو (ويليم فيربرين) (William Fairbrain) من شرطة (شنغهاي) الذي قام بجمع العناصر الأكثر شجاعة من مجموعة متنوعة من خبراء فنون الدفاع عن النفس، من الصين واليابان وغيرها، وقام بتكثيف هذه الفنون في نظام قتالي أسماه (Defendu). كان على عكس فنون القتال الشرقية التقليدية التي تتطلب سنوات طويلة من التدريب، بينما النظام الجديد يُمكن للجنود استيعابه بسرعة. انتشر هذا النوع من القتال خلال الحرب العالمية الثانية حيث سمي بنظام «المسافة صفر». القتال عن قرب كان عودة إلى شجاعة القتال بالسيف والرمح ويتطلب جرأة وخطورة كبيرة خلال التنفيذ، هكذا كانت الحرب العالمية الثانية رغم كونها مُدججة بالأسلحة والطائرات وغيرها، تحتاج إلى القتال عن قرب أي المسافة صفر.
إلى أن حَسمت الحرب «القنبلة الذرية» التي أرسلتها أمريكا من مسافتها الآمنة إلى هيروشيما وناكا زاكي.. القنبلة التي هدمت البيوت فوق أهلها وأدت إلى إبادة شعب كامل.. صدمت العالم.. سكتت الحرب وسكت الكلام. وكما أعلن (نيلسون منديلا) القنبلة التي كرست أمريكا على عرشها القوة الأعظم لم تكن موجهة ضد اليابان بل كانت رسالة إلى روسيا بالذات تقول: «إن لدينا قوة مدمرة نستطيع أن نبيد بلداً كاملاً ومن مسافة آمنة وبجنود لا يحتاجون إلى شجاعة ولا إقدام ولا مخاطرة». كانت تلك بداية أمريكا ونهاية الحرب العالمية الثانية.
تطورت بعدها الأسلحة التي تحسب المسافات وحماية الجنود وازدياد الضحايا لتصبح أهم احتياجات الدول وأهم موارد الاقتصاد.. مسافات بعيدة وضحايا كثر.. وكالعادة في أسواق المال امتدت أيدي العابثين إلى هذا المجال، فتحول التقدم الفيزيائي إلى أسلحة بيولوجية فتاكة تدمر الشعوب. ومع تطور العلم حملت لنا ثورة الذكاء الاصطناعي عالماً مبهراً. وككل تكنولوجيا عادت أيدي العابثين لتستغل كل تطور وتحوله إلى سلاح مدمر المهم أن يقتل بذكاء «يحمي القاتل ويبيد الأبرياء». وبحسب تقرير لصحيفة «تليغراف» البريطانية يمكن لـ«جهات مارقة» أن تبحث في الروبوتات الحديثة عن سبل تطوير الأسلحة البيولوجية. ويمكن من خلال الأنظمة الذكية التعرف إلى كيفية «تخليق الأوبئة والأسلحة البيولوجية». ورغم هذا التطور الهائل تفاجأ الجيل بعودة عبارة.. «المسافة صفر».. وتصدرها نشرات الأخبار..
نبشنا عن معناها في رفوف المكتبات وفي كتب التاريخ وكل الأجوبة كانت تزيد فضولنا.. أي سر وراء العودة إلى مسافة قد تعرض المقاتل إلى الموت؟ أهي حكاية إمكانيات في قلتها تجيز المخاطرة.. أم هي المسافة التي لا بد منها قبل حسم الحروب.. كيف ستحسم الحرب؟
قال التاريخ: الحرب العالمية حُسمت في هيروشيما، التي حملت رسالة للجيران..
يا ذاكرة الزمان.. كم المسافة بين اليوم والأمس؟ وكم المسافة بين القوانين الدولية والإبادة في غزة؟ وكم المسافة بين غزة وهيروشيما؟ وكم المسافة بيننا وبين غزة؟
وكيف تُحسب المسافات؟
*باحثة وكاتبة في الدراسات الإعلامية
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/msze2nw

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"