معضلة الديون الكبرى

21:17 مساء
قراءة 4 دقائق

آن كروجر *

يُعد النمو المتسارع لتدفقات رأس المال الدولية، والذي هو في الأغلب شكل من أشكال الديون، أحد النجاحات الإنمائية العظيمة للخمسين سنة الماضية، وله دور محوري واضح في عمل الاقتصادات النامية اليوم.

لكن القروض الأجنبية في المقابل هي سلاح ذو حدين، فحين تستخدم بحكمة، ينتج عنها عوائد عالية، ونمو معزز للناتج المحلي الإجمالي، ورفاهية محسنة داخل البلدان المقترضة، لكن إذا تراكمت تلك القروض وازدادت أعباء مدفوعات الفائدة عليها، من دون زيادة متناسبة في القدرة على السداد، فالعواقب قد لا تكون وخيمة فحسب؛ بل كارثية أيضاً.

وخلال جائحة كورونا على سبيل المثال، واجهت العديد من البلدان زيادة كبيرة في متطلباتها المالية، مدفوعة بارتفاع نفقات الصحة العامة، وانخفاض الإيرادات؛ بسبب تراجع النشاط الاقتصادي. واقتربت البلدان المثقلة بالديون من حافة العجز عن السداد، وحتى تلك التي كانت تتمتع بتمويل عام مستدام سابقاً شهدت ارتفاعاً خطراً في أعباء ديونها.

وبينما اتخذت حكومات عديدة خطوات جادة لخفض مستويات ديونها المرتفعة، وأدخلت حزماً من الإصلاحات لتجنب الأزمات المحتملة، أثقلت تكاليف خدمة الديون المرتفعة كاهل بعض البلدان إلى الحد الذي يجعل التعديلات الحقيقية غير مجدية سياسياً ولا اقتصادياً.

وفي ظل هذه الظروف، يبيع الدائنون المتشككون من القطاع الخاص السندات السيادية لهذه البلدان بأسعار مخفضة، ويرفضون تقديم المزيد من قروض الائتمان. وبمجرد أن يحدث هذا وتتخلف الحكومات عن الوفاء بالتزاماتها، تجد نفسها محرومة من أسواق رأس المال، وتدخل في أزمة اقتصادية مستمرة إلى أن تتمكن من إعادة هيكلة ديونها، وتنفيذ إصلاحات في السياسات الأوسع، ومن ثم استعادة الثقة في جدارتها الائتمانية.

وأيضاً، عندما تفشل شركة خاصة في الوفاء بمديونيتها، تحدد إجراءات الإفلاس حجم الالتزامات الواجب تخفيضها، مع تخصيص الأصول المتبقية للشركة. لكن في المقابل، لا توجد آلية قانونية معترف بها عالمياً لإعادة هيكلة الديون السيادية. وعلى هذا فإن أي حل يتوقف على اتفاق طوعي بين الحكومات المدينة ودائنيها.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، عندما وجدت العشرات من الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل نفسها تتجه نحو التخلف عن السداد، كانت هناك دعوات متزايدة للإعفاء من الديون. فعلى سبيل المثال، اقترح الرئيس الكيني ويليام روتو مؤخراً منح البلدان الإفريقية «فترة سماح» مدتها عشر سنوات على أقساط الفائدة. وفي حديثه في قمة المناخ الإفريقية الأخيرة، اقترح روتو أن تعيد البلدان النامية توجيه الأموال المخصصة لخدمة الديون نحو الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة. ولكن هذا الاقتراح وغيره من المقترحات المتعلقة بالإعفاء الشامل من الديون أو تأجيل سدادها لا يلقى حتى اليوم أذاناً صاغية، ناهيك عن أن ديون بعض البلدان غير مستدامة بطبيعتها. وحتى لو تم إعفاء هذه الحكومات من ديونها فجأة، فإنها سوف تفتقر إلى الموارد اللازمة لتمويل المبادرات البيئية الكبرى. علاوة على ذلك، في ظل غياب خطة إعادة هيكلة متفق عليها وإمكانية الوصول إلى موارد إضافية، فإن سلسلة التوريد الأساسية اللازمة لعمليات الإنتاج والاستهلاك ستكون مقيدة بشدة، ما يحد من استغلال القدرات الكامنة بالشكل الأمثل، والسير في نهاية المطاف نحو ركود اقتصادي.

تاريخياً، تعد مفاوضات إعادة هيكلة الديون عملية مخصصة وذات نفس طويل. وبهذا الصدد، يتعاون صندوق النقد الدولي مع الحكومات المدينة لتقييم التغييرات الضرورية في السياسات المحلية وتعديلات الديون. ومن جهة أخرى، يتعين على الدائنين السياديين، ومن خلال «نادي باريس»؛ وهو مجموعة من الدول الدائنة الكبرى، أن يتشاوروا مع مقرضي القطاع الخاص ويتخذوا القرار بشأن استراتيجية إعادة الهيكلة المناسبة.

ولكن مشهد الديون اليوم يطرح تحديات أعظم. ومن أجل التوصل إلى اتفاق إعادة الهيكلة، يجب أن يخضع جميع المقرضين لنفس الشروط العادلة، وإلا فإن بعضهم سوف ينعم بالسداد الكامل في حين يتحمل آخرون عبء عمليات الشطب الكبيرة، ومن المؤكد أنهم لن يوافقوا على ذلك.

وهنا لا بد من ذكر الصين كدائن رئيسي على مدى العقدين الماضيين، والتي رفضت الانضمام إلى نادي باريس. وبدلاً من ذلك، تصر الحكومة الصينية على أن يتم سداد مديونياتها بالكامل من دون أي شطب، ما يفاقم الصعوبات التي تواجهها البلدان النامية في خدمة ديونها، ويؤخر عمليات إعادة الهيكلة. ونتيجة لذلك، تحملت دول مثل سريلانكا وزامبيا تأخيرات غير ضرورية في حل أزمات ديونها، على الرغم من التوصل إلى اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي بشأن الإصلاحات السياسية الأساسية.

تؤكد الاضطرابات الاقتصادية المستمرة في العالم النامي على الحاجة الملحة إلى إنشاء إطار جديد لإعادة هيكلة الديون. وتشير تقديرات البنك الدولي مؤخراً إلى أن 60% أو أكثر من البلدان المنخفضة الدخل مثقلة بالديون ومعرضة بشدة لخطر العجز عن سدادها.

بالتالي، إذا فشلت هذه البلدان في الوفاء بالتزاماتها، ولم يتم تبسيط عملية إعادة الهيكلة أو تسريعها، فسوف يحجم الدائنون الدوليون عن تمويل بلدان أخرى، وهو ما قد يفاقم أزمة الديون العالمية. وسيكون لمثل هذا السيناريو عواقب مدمرة على الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة.

* كبيرة الاقتصاديين السابقة بالبنك الدولي ونائب العضو المنتدب سابقاً في صندوق النقد، وأستاذة الاقتصاد الدولي في كلية الدراسات المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/8z3vhjwf

عن الكاتب

كبيرة الاقتصاديين السابقة بالبنك الدولي، ونائب العضو المنتدب سابقاً في صندوق النقد الدولي، وأستاذة الأبحاث الاقتصادية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"