الخروج من الفوضى الفكرية

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

د. علي محمد فخرو
التغيّرات المتلاحقة، والمتضادّة أحياناً، في المشهد السياسي العالمي، ومن ثم المشهد السياسي العربي، تجعل من الصعب الوصول إلى استنتاجات تحليلية فكرية مستقرة، وموثوق بواقعيتها.

فإذا أضيف إلى ذلك انتشار الضعف الالتزامي الخلقي عند الكثيرين من المتابعين لتلك التغيرات، وتراجع الثقة بالكثير من مصادر المتابعة التاريخية السابقة، من مثل بعض محطات الإذاعة أو التلفزيون، الشهيرة بانتهاج الموضوعية المتوازنة، حتى ولو كانت نسبية، يتبين عِظَم المأساة التي تعيشها مصادر نقل، وتحليل، ونشر الخبر في هذا العالم الذي وصل إلى مشارف الجنون.

يفسر البعض كل ذلك بأن الفلسفة البراغماتية السياسية الشهيرة تقتضي ذلك. لكنهم ينسون أن ازدياد ضعف الضمير، والموضوعية، والقيم، في أية ممارسة براغماتية، يقلبها إلى ممارسة فاشستية قبيحة مبتذلة. وهذا ما هو حاصل الآن في الولايات المتحدة. فقد بدأت المحاكمات المكارثية المريضة تنتشر في كل مكان وأصبحت المشانق الإدارية تُنصب حتى طالت رؤساء الجامعات الشهيرة من الذين تجرّأوا على إبداء أي تعاطف مع، أو تفّهم لمآسي الشعب الفلسطيني، المحتلة أرضه، والمهانة كرامته، والمحارَب في معيشته، والمهدد بإعادة تشريده إلى فيافي الأرض، أو تجرّأوا، وانتقدوا الهجمة الهمجية الصهيونية على أرض غزة، وساكنيها، قتلاً وتدميراً، لم يعرف العالم مثلاً له. بل لقد أصبح الخطاب الفاشي جزءاً من الخطاب السياسي الأمريكي، ونسيت الولايات المتحدة كل ما تجمّع لديها سابقاً من فكر براغماتي معقول.

أما في الوطن العربي، صاحب القضية وحامل مآسيها، فان الانقلاب أخذ صورة أخرى: تجرّع الذلّ، وتنكيس الرؤوس، وعدم القدرة على التأثير في إلزام إسرائيل والولايات المتحدة القبول بالقرارات الدولية. في هذه الأجواء الحزينة المأساوية أصبح تكوين الاستنتاجات المعقولة مستحيلاً، بعد أن تغير من كانوا يلبسون جلود الأسود، إلى لبس جلود الخراف المذعورة، وبعد أن أصبحت اليد الطولى لمن كانوا لا يجرؤون على المساس بهذه الأمة في خمسينات القرن الماضي من دون أن يواجهوا بنضال وصمود الملايين من شعوب العرب لدحر تدخلاتهم.

ما يجب أن يعيه شباب وشابات الأمة، أنهم في هذه اللحظة يحتاجون إلى عدد هائل من القيم ليفعّلوها، حتى يستجمعوا ما تمزق في نفوسهم، ويعاودوا النضال من جديد. أولى هذه القيم هي عدم تراجع المشاعر الوطنية والقومية والإسلامية في نفوسهم، تجاه محاربة أعداء الأمة، التاريخيين والجدد، وعدم تراجع الإرادة السياسية عندهم، والإصرار على عدم السماح لأية قوة انتهازية داخلية بهجر الالتزامات العروبية. لكن ذلك يتطلب، بإلحاح شديد، أن يكونوا قادرين على ألا ينجرفوا في بحر الإعلام المزيف الذي يحيط بهم، ولا في بحر المؤامرات، باسم الطائفة، أو القبيلة، أو القُطر، أو الجهة، أن يجرفهم.

نحن في فترة قلق شديد، وضباب سياسي مكثف، ومناظر متناقضة لا تنتهي. ولذلك فإن شباب الأمة لن يخرجوا من تلاطم الأمواج، ويعودوا إلى النضال المنظم التراكمي إلا إذا تسلحوا بثقافة سياسية متينة عميقة تحميهم من كل ذلك. في الماضي، كانت هناك مؤسسات رسمية ومدنية شعبية تقوم بذلك. الآن يحتاج الشباب والشابات إلى أن يعتمدوا كثيراً على أنفسهم. وهذه ملحمة جديدة تضاف إلى قدَرهم لمواجهة عصرهم.

dramfakhro@gmail,com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4sepun3f

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"