«العربية».. تاج فوق ناطحات السحاب

00:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. نسيم الخوري

حفلت وسائل التواصل بنصّ دعوة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، يحضّ عبرها الأفراد والمؤسسات على النهوض باللغة العربية ونشرها واستخدامها وتسهيل تعلّمها وتعليمها وتعزيز مكانتها وتشجيع العاملين على نهضتها واشتراكهم بالجائزة السنوية ضماناً لمستقبل لسان العرب في العالم. جاء فيها: «لغتنا هي هويتنا وهي رمز عزتنا وحضارتنا وثقافتنا العربية والإسلامية العريقة. علينا جميعاً أن نحترمها وننمّيها في أوساط أجيالنا الحاضرة والواعدة كي تظلّ أميرة لغات العالم وتاجها، لأنها لغة القرآن الكريم الذي أنزل هدى للناس أجمعين».

وأتذكّر في العام 2020 «تويتر» نشره سموه في اليوم العالمي للّغة العربية وفيه: «العمل مستمر لحماية لغتنا... نحتاج لمبادرات أكثر من محاضرات».

وألفت بأنّ عيداً للغتنا العربية أقرّته الأمم المتّحدة في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1973، لكننا لم نلمس الأصداء العربية المنتظرة، وإنّي من المتابعين لصاحب السمو المسكون بهموم العربية مذ خصّني بشرف لقائي عقب محاضرة لي في دبي بدعوة من منتدى الإعلام العربي في دورته الثامنة (12 مايو 2009) إذ رحت أتقفّى اهتمامه المميّز بالعربية تعلو ناطحات السحاب.

أجزم رافعاً العمر والعشر والحبر، بأنّ جهودكم علامة فارقة لمستقبل العربية. صحيح نحتاج إلى مبادرات في زمن اللايك والتويتر والفيسبوك والذكاء الاصطناعي حيث الإشارات والصور الجاهزة والشات ونقر الأصابع لأجيالنا نصوصاً عاميّة من اليسار إلى اليمين وكأنهم يحقّقون نظرية الشاعر سعيد عقل حول «ليتنة اللغة العربيّة» مع أنّهم لم يسمعوا به.

بلغنا تخوم الخيبة حيال تراجع العربيّة في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والتواصل مع اليقين بأنّ الإنسان نطفةً لغوية تولد لتُخرجه تحقيقاً لإنسانيته وتطوره إذ لا سبيل للمعرفة إلا بلغة تنقله من الانساني إلى اللغوي. وقد ينقضي العمر دون اكتمال الإنسان قولاً وكتابةً. ويبقى السؤآل: كيف السبيل إلى تعميم الجهود لدفع الأجيال وإيقاظها تمكّناً من اللغة وتعبيراً عن آرائهم ومشاعرهم وحضارتهم؟

هنا إشارات ست خجولة:

1- في العام 1975 تخرجت في السربون 3، حاملاً دكتوراه في «مظاهر الحداثة العربية»، بإشراف البروفيسور أندره ميكال آخر كبار المستشرقين الفرنسيين (تُوفّي قبل شهرين) وكنت مساعداً له إذ سخّر عمره الأكاديمي لصيانة العربية التي رفعها نحو العالمية ناقداً ترهل لسان العرب وتزحلقه فوق سلالم التعبير في مصر ولبنان وبعض بلدان العرب.

2- درّست العربية لأعدادٍ كبيرة من أبناء العائلات العربية في ثانوية لاروش الفرنسية (1975 1977) ما جعلني أعاني الكثير إذ لم تكن الفصحى تُثير لديهم سوى المزاح والنفور.

3- عملت لسنوات مديراً لتحرير مجلة المستقبل في باريس منذ 1976. وقد تفاجئك الصعوبات التي كابدتها لغة الصحافة المهاجرة هناك حيث استغرق اللغويون عقداً بتنقية نصوص الأخبار والمقالات، وكأنّ متنفساً أو واجباً قومياً دفعني للتسجيل في 1981 في الجامعة نفسها لمشروع أطروحة بعنوان اللغة العربيّة الأساسيّة بين عصرين. راسلت جامعة الدول العربية ملتمساً العون لمشروع يقي لغتنا العثرات كما راسلت بعض مجامع اللغة العربيّة التي طواها الزمان واندثرت وأيقنت بعدم جدوى الاستغراق في طرح أفكار ومشاريع بدت فيه الدنيا لا اللغة وحسب في تراجع وانحطاط.

4- بعد غياب عقد ونصف انخرطنا في بيروت بتخريج الإعلاميات والإعلاميين كما بإدارة كلية الإعلام والتوثيق وبإدارة تلفزيون لبنان، وبقيتُ عقوداً أربعةً أعاني الخفّة لدى العديد من المحاضرين بالعامية في وطنٍ راحت الشاشات تتسابق علناً فيه لتدمير الفصاحة تعبيراً وكتابةً. حاولت فرض اعتماد الفصحى وجاءت النتيجة سلبية ورفضاً من الطلاب وبعض الأساتذة كانت من نتائجها استقالتي من إدارة الكليّة عند مزج اللغة بالسياسات وكأن الفصحى جاءت خرقاً مداناً لأعرافٍ لم أفهمها!

5- ناقشت دكتوراه ثانية جاءت خلاصات 30 سنة من التعليم الجامعي بعنوان: الإعلام العربي وانهيار السلطات اللغوية، طبعت مرتين في مركز دراسات الوحدة العربيّة، واحتلّت المرتبة الأولى في مبيعات معرض الكتاب الدولي في لبنان عام 2005، وفيها أبرزت انحدار العربية أساساً مع انهيار ألسنة رموز السلطات الدينية والسياسية والعسكرية والقانونية والقضائية والإعلامية وهذه الأخيرة بدت السلطة الفاقعة التي تجاوزت السلطات وتمكنت منها بالتقسيم والتهشيم، وبقيت أتلقى الدعوات السنوية الاحتفالية من المجلس العالمي للغة العربيّة. تسكنني الخيبة حيال النفور العام من الفصحى بدلاً من مراكمة المبادرات المشابهة التي تضيء تحديداً من دبي.

6- توقظ دعوات صاحب السمو الجادة حفاظاً على العربية بعض الأسئلة النائمة:

ما مسؤوليات دول العرب وجامعة الدول العربية ووزراء الإعلام العرب وما مصير توصياتهم حيال انهيارات الفصحى وقد راسلناهم مراراً وتكراراً؟

جواب: التوصيات مكدسة خطباً وتوصيات وصيغاً ومقترحات وأفكاراً وندوات وطاولات مستديرة ومقابلات ودراسات ومقالات، ومعظمها محكوم بالتكرار عبر الأنشطة الرسمية من مؤتمر لآخر، لكنها لا تضيف جديداً وكأننا في حالة عجز!

كيف السبيل لوقف الانهيارات؟

أجابني زميل يوناني بأن أجيال اليونان الشابة لم تعّد تفهم اللغة اليونانية القديمة التي استعملها الفلاسفة أمثال سقراط وأرسطو وإفلاطون.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/277u4n6b

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"