التنوّع لا الأحادية

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

بصرف النظر عن إرادات الأفراد والجماعات، أيّاً كانت، فإنه ما من مجتمعٍ من المجتمعات يخلو من التنوّع، وإن تفاوتت درجات هذا التنوع بين مجتمع وآخر. وحتى في حال كان المجتمع المعني مكوّناً من قوميّة واحدة فقط، ويدين أهله بديانة واحدة، وهذا نادر في الواقع، فإننا سنجد داخل هذه القومية تفاوتات داخل أبناء القومية الواحدة، وأصحاب الديانة الواحدة، آتية من عوامل أخرى بينها تنوّع البيئات في البلد نفسه، فجزء من السكان ولدوا ونشأوا في المدن واكتسبوا الصفات التي تطبع هذا النمط من السكّان، وجزء آخر ولدوا ونشأوا في القرى أو البلدات البعيدة عن المدن، ولهؤلاء بدورهم صفات وأنماط سلوك مختلفة، في بعض أوجهها على الأقل، عن أبناء المدن.

ليس هذا فقط، فإذا كان البلد المعني يقع على البحر، فيما يمتدّ عمقه نحو مناطق أبعد، صحراوية أو زراعية أو سواهما، فإننا سنلمس أن مجاورة البحر، والمهن التي تنشأ عن هذه المجاورة، ستطبع سكان السواحل بسمات غير تلك التي لدى سكّان المناطق الزراعية، أو تلك الممتدة في الصحراء، ناهيك عن أن الاختلاف الاجتماعي الناجم عن تفاوت مستوى الدخل وطبيعة العمل، ونعني به ما يعرف في الدراسات الاجتماعية بالتكوين الطبقي بين أغنياء وفقراء، وبين مرتفعي الدخل ومنخفضيه يخلق بدوره درجة من الاختلاف في نمط المعيشة. وقياس تقدّم ونجاح أي مجتمع هو تمكنّه من تضييق الهوة بين أبنائه، وتحقيق أوجه المساواة في الخدمات وفرص التقدّم لهم.

الأحادية ليست الوحدة على الإطلاق، فليست نقيصة لأي مجتمع أن يكون متعدد القوميات أو الديانات، أو المذاهب داخل الديانة الواحدة، وما أكثر البلدان العربية التي نجد فيها هذا التنوع، حيث تضمّ العرب والكرد مثلاً، كما هي حال العراق وبعض بلاد الشام، والعرب والأمازيغ مثلاً، كما هي حال بلدان المغرب العربي، ولو اعتمدنا الدين مقياساً، سنجد بلداناً عربية يعيش فيها المسلمون والمسيحيون وملل أخرى سواهم.

وتدل التجربة على أن البلدان، عربيّة كانت أو غير عربية، التي يضطر جزء من سكّانها للهجرة نتيجة الحروب والأزمات والفتن، تفقد جزءاً ثريّاً من تنوّعها بسبب هذه الهجرة القسرية لمواطنين عن البلدان التي عاش فيها أجدادهم قروناً ممتدة، فيما نجد الصورة مختلفة في المجتمعات التي نجحت في استيعاب كافة مكوّناتها في نسيج وطني واحد على قاعدة مبدأ المواطنة، وأن تبني منها وحدة وطنية راسخة، فغدا تنوّعها عاملاً أساسياً في ثرائها الحضاري والثقافي والإنساني، وفي اكتساب مواطنيها، على تنوّعهم، روح التسامح وقبول الآخر، فكرة وبشراً، وما ينجم عن ذلك من انفتاح ونبذ للانغلاق على الذات، وكافة صور التزمت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/35fn53hf

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"