محاكمة.. في ساحة الرأي العام

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ندى أحمد جابر*

منذ أن أصبح العالم قرية صغيرة، أصبح للحروب ساحتان.. ساحة الميدان الأرضي وساحة الفضاء الرقمي.. وإن كانت ساحة الميدان الأرضي تتطلب أسلحة ودبابات وتدمر بكل انتقام.. فساحة الرأي العام الرقمي مملوءة بالألغام.. ولا تقل قوة وتأثيراً في مسار الحروب.. الألغام التي انفجرت اليوم.. كانت في ثورة طلاب الجامعات.. جيل شاب، جيش من أخلاق وقيم وإنسانية تخطى حدود الصمت ليعتصم وينتفض في مظاهرات عمّت معظم جامعات العالم، جيل جديد قادر على تحويل الخنوع والاستسلام إلى محاكمة في ساحة الرأي العام.

كتب المؤرخ العسكري البروسي كلاوزفيتز في كتابه الشهير (في الحرب) الذي نُشر في القرن التاسع عشر: «إذا اكتشفت كيف تُشكل أو تُحطم روح مُنافسك فقد تربح الحرب، مع تَجنب مواجهة جيش العدو بالكامل». رغم أنه أوضح أن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب، لكنه أثبت أن الحرب النفسية لا تقل تأثيراً عن أسلحة الحرب التقليدية. جاء ذلك الكتاب قبل عصر القرية وحرب التنافس على امتلاك ساحتها.. وقبل دخول الإعلام التقليدي والإعلام الرقمي الحروب النفسية.

وتعتبر أهم مميزات الإعلام الجديد هذه الساحة الشاسعة المفتوحة للرأي العام.. رغم العمل الدؤوب الذي تقوم به الخوارزميات بهدف عرقلة ما لا يروق لها.. بقيت هذه الساحة مفتوحة للمتنافسين على السيطرة عليها وللمقاتلين من أجل قضية يؤمنون بها. فحروب اليوم لا تشبه حروب الأمس. بالأمس كنا نسمع بها وأحياناً لا نسمع، ويتطلب الأمر متابعة الصحف أو انتظار ساعة معينة لمتابعة نشرات الأخبار. لكننا اليوم أمام ساحة متاحة للجميع تنقل الأخبار الموثقة بالصوت والصورة ومباشرة من موقع الحدث وتخترق الخوارزميات والرقابة التقليدية لتصل إلى كل الناس.

اليوم تجمّع العالم كله في هذه الساحة التي حملها لنا زمن القرية الكونية. وقد يكون هذا ما قصده الكاتب مارشال ماكلوهان في كتابه (الحرب والسلم في القرية العالمية). هو لم يشرح كيف سيكون لهذه القرية ساحة مفتوحة للرأي العام لكننا نعيشها اليوم. في هذه الساحة تتم محاكمة كل من خرج عن قانون الإنسانية وتتم محاسبته. تماماً كما نشاهد في التظاهرات التي ترفض «تمويل» الإبادة وتجويع شعب مُحتل.. وفي تقييم قرارات الأمم المتحدة التي علمونا أنها مقدسة ولا مجال للمراجعة فيها.

اليوم تضج الساحة بالمتظاهرين الرافضين لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ويجدون فيها وفي الفيتو غير المنصف غطرسة وسيطرة تجعلنا نتساءل أين أصبح الأمن في هذا المجلس؟ اليوم نجد في الساحة من يسأل ويحاكم.. خاصة بعد التجربة الأخيرة برفض قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين رغم أغلبية الموافقين إلا أن قانون الفيتو يملك حق رفض رأي الأغلبية ويكفي أن يرفع يده لتسقط كل المطالب مهما كانت مُحقة.

ولكي نفهم أكثر، نسأل كيف تأسس هذا المجلس وكيف صار هو الحكم الفصل حتى لو كان هو الخصم والأصل في المشكلة؟ مجلس الأمن هو من الهيئات التابعة للأمم المتحدة، ويتكون من 15 عضواً منهم 5 أعضاء دائمون هم (أمريكا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، والصين) والعشرة الباقون أعضاء يتغيرون كل سنتين. أما حق الفيتو فهو فقط للأعضاء الخمسة الدائمين.

ويعد هذا المجلس المسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليين طبقاً للفصل السابع من (ميثاق الأمم المتحدة) كما يقوم بالتوصية بقبول أعضاء جدد في الجمعية العامة والموافقة على أي تغييرات في ميثاق الأمم المتحدة. لهذا المجلس سلطة قانونية على حكومات الدول الأعضاء، لذا تُعد قراراته مُلزمة للدول (بحسب المادة الرابعة من الميثاق). وتشمل سلطاته عمليات حفظ السلام، وفرض العقوبات الدولية، والسماح حتى بعمل عسكري إذا اقتضى الأمر.

إذن هو القوة الوحيدة المُخولة إصدار قرارات مُلزمة للدول الأعضاء. نفهم مما سبق أن هذا المجلس يحكم كل دول العالم بشعارات جميلة هي الحفاظ على الأمن والسلم الأهلي ونبذ العنصرية والتطرف. ولكن الأيام والأحداث علمتنا أن هذه الشعارات مطاطة.. تتغير حسب موقعها المفيد لمصالح الممولين.. ولو بحثنا أكثر عن الممولين نجد.. الولايات المتحدة تساهم بالجزء الأكبر من الميزانية المخصصة للأمم المتحدة. تليها باقي الدول بفارق كبير وبنسب مختلفة.

وكون الولايات المتحدة تملك حق النقض (الفيتو) فهي لن ترضى بقرار لا يتماشى مع مصالحها. والأمم المتحدة لن تعترض لأنها تحتاج هذا التمويل.. وكان العالم يصمت دون مناقشة، لكننا اليوم في ساحة الرأي العام وفي القرية الكونية نواجه تحدياً جديداً.. جيل شاب يملك الشجاعة الكافية للمحاسبة والتظاهر. اليوم تضج وسائل التواصل بآلاف الأسئلة والانتقادات التي تحولت إلى اعتصامات في معظم جامعات العالم.. مما جعل قرارات المجلس المقدسة مثار سخرية، ولأول مرة في التاريخ وُضع المجلس في محكمة الشارع.. خالياً من كل أقنعة القيم التي أنشئ على أساسها.

اليوم ليس كالأمس، للناس اليوم صوت وصورة وشباب قادر على المحاسبة والتحدي والسؤال.. أين الإنسانية في مجلس ينصر الظالم على المظلوم؟ أين مبدأ الديمقراطية في مجلس لا رأي فيه للأغلبية؟ اليوم برز السؤال.. أين الأمن في مجلس يحكمه.. فيتو (الأمر)؟

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mv4au9t4

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"