صناعة الثقافة

00:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا يستطيع المتابع لصناعة الثقافة في دولة الإمارات العربية المتحدة، إلا أن ينظر بعين الفخر والسعادة والثقة، لما وصلت إليه من نضج وتقدم وتطوّر، ومن عايش بدايات العمل الثقافي وصناعة المحتوى الإبداعي في الإمارات، سيدرك هذا الإحساس الذي يتجاوز كونه عاطفياً، لينظر إليه كصناعة تساهم في تطوير فكرة تكوين مجتمع المعرفة، وتهيئة الإنسان إلى ما بعد مرحلة النفط، ويمكن أن نطلق عليه بشكل علمي وآخر ثقافي بأنه قوة الاستدامة، والوصول إلى هذه القوة، بهذا المستوى من الإصرار على مواصلة التغيير، يؤكد أن كل لبنة وُضعت في بناء الدولة هي لبنة بناء نوعية تتسم بالجودة، وتحمل بذور رسوخها في قلبها، ومن الرسوخ والثبات تبدأ الحركة والعلو والتقدم، فما بُني على قاعدة متينة يُكتب له البقاء والاستدامة.

وصناعة الثقافة ليست في تأسيس المطابع، وتعزيز حركة النشر، وتوفير الكتاب، وما يتعلق به من أحبار وورق وأجهزة تكنولوجية متطورة، على الرغم من أهمية ما ذكر، بل صناعة الثقافة تعتمد على تأسيس الاستعداد لاكتساب المعرفة، والقناعة بأهميتها في تشكيل الشخصية الوطنية، التي تستند إلى تراث مكتوب وشفهي، يشمل العلوم كافة، ومنظومة القيم المصاحبة.

وهذه القناعة هي الخطوة الأولى والضرورية في صناعة الثقافة. فعندما قام المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، بافتتاح الدورة الأولى لمعرض الكتاب في العام 1981 في المجمع الثقافي في أبوظبي، وحمل عنوان الكتاب الإسلامي، بمشاركة خمسين ناشراً، أمر، يرحمه الله، بشراء جميع الكتب من الناشرين بعد انتهاء المعرض، وكانت تلك الكتب نواة المكتبة الوطنية في المجمع الثقافي، ولا بأس من الإشارة إلى أنه تحوّل اسم المعرض في العام 1986 إلى معرض أبوظبي للكتاب، وشارك فيه سبعون ناشراً، وفي العام 1988 شارك في المعرض ثمانون ناشراً وعشر دول عربية، واليوم يشارك في معرض أبوظبي الدولي للكتاب مئات دور النشر العربية والأجنبية، إضافة إلى المؤسسات الرسمية في دولة الإمارات، وسنعود إلى مشاركة المؤسسات الرسمية لاحقاً.

وبذلك يمكننا القول، إن الشيخ زايد، يرحمه الله، هو الذي وضع اللبنة الأولى لصناعة الثقافة في الإمارات، صحيح أن شراءه للكتب من الناشرين أسس لمكتبة وطنية، ثم رفدها في ما بعد بآلاف الكتب، إلا أنه أعلن للإماراتيين أن عصراً جديداً للمعرفة في الإمارات قد بدأ، وأعلن لدور النشر المشاركة، أن الإمارات ستسهم في الحراك الثقافي العربي. وبعد 43 عاماً، أصبحت الإمارات واحة للناشرين والطابعين والكتاب والمبدعين المحليين والعرب والعالميين، كما أصبحت أرضاً لصناعة الكتاب، والمعرفة، والإبداع. وتساهم هذه الدائرة أو العجلة في دعم تطوير بدائل النفط، وصولاً، بعد خمسين سنة من الآن، إلى تحقيق الهدف الأسمى، وهو، مجتمع المعرفة، حيث الإنسان، أداته وهدفه ووسيلته.

ولن نتحدث هنا عن المؤسسات الصناعية ذات الصلة بالمنتج الثقافي، ولا بالمؤسسات المعرفية اللصيقة بصناعة المعرفة وإنتاجها، ولكن لا بد من الإشارة، وإن كانت سريعة، إلى أن الإمارات أصبحت بلداً ملهماً في إنتاج المحتوى الإبداعي، عن طريق توفير البنية التحتية المتقدمة للثقافة، ومن بينها رعايتها للجوائز الضخمة، التي تجذب كبار الكتاب في العالم العربي، وهناك جوائز تجذب علماء وكتاباً ومترجمين ومؤلفين من العالم أجمع، وبسرعة، لا بد من القول، إن المسألة لا تتعلق بالوفرة المادية، وإنما بتحوّل الإمارات إلى دولة مساهمة في تشجيع العلماء والمبدعين والمبتكرين، ودولة راعية للمواهب الكبيرة، ومنها من اختار الإمارات بلداً لإقامته، وهذا لم يكن ليحدث، لولا المبادرة التي تكرّم بها الشيخ زايد، رحمه الله، وكانت البذرة التي تحولت إلى حديقة وارفة الظلال، ويساعد على ذلك، بيئة التسامح والانفتاح والاعتراف بالثقافات الأخرى، التي تتلاقح لتقدم لنا، في نهاية المطاف، فكراً إنسانياً يدعو إلى التعايش والمحبة. ولا بد من الإشارة أيضاً، إلى أن إمارات الدولة كلها، تشهد هذه الصناعة الثقافية، وتحتضن الجوائز القيّمة، في ميادين مختلفة.

كنا قد أشرنا إلى مساهمة المؤسسات الرسمية في صناعة الثقافة، وفي الحراك الحضاري العام، وهي مساهمة لافته للانتباه، تشهدها كل معارض الكتاب في إمارات الدولة، إذ يمكننا رؤية أجنحة لمؤسسات رسمية، لن نذكرها بالطبع، كما لم نذكر أسماء الجوائز والجمعيات والنقابات، ولكنها مؤسسات، بعضها يعمل في الشأن الثقافي، كمراكز الدراسات والبحوث، وبعضها مؤسسات إدارية وصناعية، لكن لديها أكثر من منتج ثقافي ضمن اختصاصها، ما يشير إلى أن التعامل يتم مع مفهوم الثقافة بشمولية. ووجود هذه المؤسسات يكسر المفهوم التقليدي للعمل الثقافي، نحو مفهوم أكثر تطوّراً، يوصلنا إلى مفهوم يقول إن أي جهد عقلي ومعرفي يقوم به الإنسان، يصب في العمل الثقافي، وبالتالي في صناعة الثقافة.

نقول هذا الكلام، وقد أنهى معرض أبو ظبي الدولي للكتاب دورته الثالثة والثلاثين يوم أمس، بمشاركة 1350 جهة عارضة تقريباً، وعشرات دور النشر الجديدة، لتتجه الأنظار من جديد إلى معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي يقام عادة في أول شهر نوفمبر القادم، لتتواصل مسيرة صناعة الكتاب في الإمارات، بخطى واثقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4fb5ux2m

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"