«صائغ في متجره»..الألوان لحظة من البهجة

الشارقة: «الخليج»

يُنسب إلى الفنان بيتروس كريستوس اليوم نحو 30 عملاً، من أشهرها صورة «كارثوسي»، ويعتبر الرسام الرائد والأهم في بروج، التي كانت آنذاك مركز الرسم الهولندي الرائد، فرغم أنه لم يكن معروفاً بصورة كبيرة في عصره، وظل مجهولاً لعدة قرون، وجاء ذكره بصورة مقتضبة ضمن سيَر الفنانين، في مرجع المؤرخ جورجيو فاساري مؤرخ رسامي عصر النهضة، إلا أن كريستوس لم يبق مجهولاً بعد أن كُتبت عنه في ما بعد العديد من الأبحاث، التي أعادت الاعتبار لذكراه وفنه، لكونه من الرسامين الكبار والمؤثرين في عصر النهضة، وجاءت تلك المجهودات البحثية بصورة خاصة من قبل كل من جوستاف فاغن، ويوهان ديفيد باسافانت، حيث بذلا جهداً كبيراً على مستوى تحديد سيرته الذاتية، ونسبة الأعمال الفنية إليه.

ولد كريستوس ولد في بارله، بالقرب من أنتويرب وبريدا، في هولندا، وبوصفه تلميذاً وخليفة لجان فان إيك، فقد تم الخلط بين لوحاته في بعض الأحيان مع لوحات فان إيك، نسبة للتشابه الكبير في الطريقة والأسلوب والمواضيع، وعند وفاة فان إيك عام 1441، تولى كريستوس إدارة ورشة أستاذه، وقد اشتهر بكونه رساماً مستقلاً تظهر أعماله تأثيراً كبيراً في المُشاهد، ويقال إنه قد سافر إلى إيطاليا وتأثر بحركة الفنون هناك.

• قيمة

تعد لوحة «صائغ في متجره»، من الأعمال المهمة وذات القيمة الفنية العالية، وقد رسمها كريستوس عام 1449، بألوان الزيت على خشب البلوط، وهي تنتمي إلى أسلوب وطريقة الفنان التي اشتهر بها، من اهتمام بالتفاصيل الصغيرة والزخرفة، والبراعة في توزيع الألوان ودرجات الإضاءة والظلال، وإبراز الوجوه، فهو من أبرز رسامي البورتريه، والقَيّم الكبير على تقاليد مدرسة بروج البلجيكيّة بعد جان فان إيك، لذلك تكاد لوحاته أن تكون صوراً حية ناطقة، وتعج بالحركة والجمال الساحر، خاصة تلك الألوان الساطعة الأنيقة التي تُشعر المُشاهد بأجواء مختلفة ورائعة من الفرح والبهجة.

ويقال إن هذه اللوحة أو التحفة الفنية كما يطلق عليها العديد من النقاد، قد رسمها كريستوس بطلب من نقابة الصّاغة بمدينة بروج، من أجل الترويج لمهنة الصياغة والاحتفاء بها في ذات الوقت، إذ كانت تلك المدينة مشهورة بهذا الفن بصورة كبيرة، وأرادت النقابة أن تخلد المهنة بصورة مختلفة، في ما يروي بعض المؤرخين أن العمل في الأصل هو بمثابة لوحة شعبية تجسد مشهداً لا أكثر ولا أقل، لكن الرأي الأول هو الأكثر رواجاً وترجيحاً، حيث كثيراً ما كان يطلب من الرسامين، خاصة المعروفين منهم، في ذلك الوقت رسومات على تلك الشاكلة من قبل أثرياء المجتمع وطبقته المخملية، خاصة البورتريهات الشخصية، وتشير اللوحة إلى براعة كبيرة للفنان، لذلك جاءت هذه القطعة الفنية وهي تحمل توقيعه.

• وصف

يظهر في مشهد اللوحة ثلاث شخصيات، أبرزها الرجل الجالس، بزيه الأحمر، وهو يزن خاتم الزواج الخاص بزوجين، وربما يكون هذا الرجل هو صائغ مشهور في عصره في رواية بعض المؤرخين، بينما تشير روايات أخرى إلى أن هذا الصائغ قد يكون رجل الدين الشهير، في ذلك الوقت، إليجيوس، الذي كان بمثابة الرّاعي لنقابة الصّائغين، حيث يبدو منهمكاً في العمل، أما الرجل الآخر والفتاة، فربما هما في مرحلة الخطوبة ويتأهبان للزواج، ويبدو من ملابسهما الفخمة أنهما ينتميان للطبقة العليا، بينما تظهر كذلك شخصيتان (رجلان) يعبران الطريق من خلال انعكاس صورتهما عبر المرآة المحدبة، التي تقبع في منضدة الصائغ، ويرى النقاد أن هذا المشهد في المرآة يُعدّ خدعة تمكّن من جعل فضاء الرّسم ممتدّاً على نحو يتجاوز حدود الدكّان الصّغير ليصل إلى الطريق الموجود في الخارج.

• تفاصيل

تعجّ اللوحة كذلك بالعديد من التفاصيل الأخرى، وجميعها خاصة بمهنة الصياغة كما تظهر على المنضدة والرفوف على الحائط، فهنالك زوج من أسنان القرش، وبعض الزخارف الأخرى، والأشكال والأدوات المصنوعة من المرجان، والكريستال، والرخام السماقي، واللؤلؤ والأحجار الكريمة، إلا أن المثير للاهتمام هو النقش الخاص بالفنان أسفل اللوحة، والذي يحتوي على شعار على شكل قلب، ولعل كثرة التفاصيل المميزة هي التي جعلت هذه اللوحة الموجودة الآن في متحف المتروبوليتان للفنون، تنال تلك الشهرة الكبيرة.

قدم الرسام الهولندي بيتروس كريستوس «1420 - 1475»، الكثير من الممارسات الفنية الخالدة، فهو يعد واحداً من أهم رسامي عصر النهضة المبكر، مارس نشاطه الإبداعي في مدينة «بروج»، إلى جانب الرسام هانز ميملينج، وأصبح الرسام الرائد بعد وفاة جان فان إيك، حيث إن كريستوس تأثر بهذا الأخير كثيراً، وقد برز في اتباع أسلوب خاص به، حتى اشتهر برسوماته وابتكاراته ذات المنظور الخطي والتقنية الدقيقة، التي تبدو مستمدة من المنمنمات وزخرفة المخطوطات.