الكتابة والمسدّس

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

تذكر بعض مصادر حياة شارل بودلير أنه وجّه رسالة احتجاج إلى ناشر يدعى شاربنتير في العام 1863 لأنه تصرّف في إحدى قصائده ليس بحذف كلمة أو جملة، بل كان احتجاجه على فاصلة. في رسالة شاعر «سأم باريس» يقول للناشر: «لقد قلت لك: فلتحذف القصيدة بكاملها، إن لم تعجبك فاصلة في القصيدة، لكن لا تحذف الفاصلة، فلها مبررها للوجود». ويضيف بودلير: « لقد قضيت حياتي كلّها في تعلّم بناء الجملة، وأقول بلا خشية منّي، إن ما أسلّمه إلى أية مطبعة هو مكتمل بصورة ممتازة. إنني أعرف ما أكتب، ولا أحكي سوى ما رأيت». (ترجمة: رفعت سلّام).

هذا شارل بودلير الذي قلب طاولة الشعر الفرنسي والأوروبي على رؤوس «الجَمَدة» والخشبيين، يحتج على حذف فاصلة، مجرّد فاصلة، في حجم سمسمة أو عين نحلة، وما زال البعض من شعراء الحداثة العربية يعتبره فوضوياً، لا مبالياً، في الحياة، وفي الكتابة.

وفي قصة مشابهة لفاصلة بودلير، يُرْوَى عن الشاعر اللبناني خليل حاوي أنه حمل، ذات يوم، مسدساً وذهب إلى المحرر الثقافي في إحدى الصحف، وهدّده بالمسدس إن هو حذف كلمة أو فاصلة من شعره مرة ثانية. وبالطبع، ما كان يمكن لشاعر في مثل حساسية حاوي أن يطلق النار على الصحفي، وإنما هي فورة غضب من صاحب «نهر الرماد» مع أنه معروف عنه عصبيته الشخصية، تلك العصبية التي تتجلّى أحياناً في شعره المرصوص كما ترصّ بدقة حجارة الرصيف. إذاً، هي الفاصلة، وأخواتها من علامات الترقيم: الاستفهام، والتعجب، والأقواس، والنقطة والنقطتان الأفقيتان والعموديتان، كما لو أنها تلك الحجارة الصغيرة الرخامية اللّامعة في عمارة من الكلمات.

تشي النقطة في نهاية الجملة بخاصة حين تكون الجملة قصيرة بالحسم والقطع والتوقف الكلّي ليتاح للقارئ التنفس، وتعمل الفاصلة على وقفات قصيرة للتنفس أيضاً، والانتقال السلس من معنى إلى آخر، إما تشكيلياً أو من ناحية بصرية، فتبدو علامات الترقيم هذه في النص جماليات صغيرة مساعدة لجماليات اللغة والكتابة عموماً، وفي كل الأحوال يربط القارئ المحترف بين هذه العلامات، وبين التنفس وحيوية الرئتين، وهي علاقة علمية، أكثر مما هي علاقة شعرية تخطر على البال، حين نربط بين الكتابة وتفاصيلها الصغيرة، وبين وظائف الجسد أثناء القراءة.

ابتعدت قليلاً عن فكرتي، وهي صورة بعض الكتابات الموصولة على طول الخط بجملة طويلة خالية تماماً من الفواصل، والتنقيط، والعلامات الاستفهامية والتعجبية. كتابة على نَفَسٍ واحد تقطع النفس، وتحرم القارئ من الوقوف والتريّث تماماً مثل الخطب الطويلة الماراثونية، كما يقولون، للرئيس فيدل كاسترو، تحديداً، حين كان يتعرّق، وتعرق خطبته.هنا، فعلاً، تحتاج مثل هذه المسافات الطويلة في الكتابة.. إلى مسدّس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"