عادي
أفق

“طائفة الأنانيين”

03:54 صباحا
قراءة دقيقتين
بعض المصطلحات والصفات نرددها يومياً من دون أن نفكر في تاريخها ومعانيها المختلفة أوما يمكن أن تختزنه من دلالات، ينطلق الكاتب والمسرحي الفرنسي إيريك إيمانويل شميت في روايته "طائفة الأنانيين" من هذه الملاحظة ليؤسس لفضاء متكامل لمعنى الأنانية، يدخلنا إلى مدار الأحلام والأوهام من خلال باحث يعد لأطروحته للدكتوراه في المكتبة الوطنية في باريس حيث يصاب بالملل في أحد الأيام فيقرر أن يقرأ بعيداً عن بحثه، ليطالع في المعجم القومي وبطريق الصدفة تعريفاً حول طائفة غامضة ظهرت في القرن الثامن عشر بزعامة غاسبار لانغونهيرت تدعى "طائفة الأنانيين"، يقع الباحث في فتنة "الأناني"، وهو بحسب المعجم الشخص الذي يظن أنه يعيش بمفرده في العالم وكل ما يحيط به ليس إلا مجرد صور زائفة تستمد وجودها الحقيقي منه، ويشعر البطل أن التعريف ينطبق عليه فيبدأ التنقيب عن تاريخ المدعو لانغونهيرت .
يستخدم شميت كافة آليات وأدوات الفن الروائي ليجعلنا نلهث مع بطله في رواية لا تتجاوز 160 صفحة من القطع المتوسط، فالبطل يفتش في المكتبات القديمة ودار الوثائق وأرشيف البريد المركزي، يرحل من فرنسا إلى هولندا، يتجول بين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، يقابل شخصيات غريبة في تصرفاتها وأفكارها، يستحضر لنا صالونات باريس في القرن الثامن عشر لنستمع إلى حوارات فلسفية، فالكثير من الألغاز تحيط بلانغونهيرت، والمعلومات عنه شحيحة، فهو في هذا الكتاب شخص أرستقراطي من النبلاء، وفي تلك الحدوتة دون جوان، وفي قصة ثالثة هو نفسه الفيلسوف الشهير ديدرو، وعندما يعجز البطل عن لملمة ملامحه يمسك بقلمه ليكمل له قصته، يقع لانغونهيرت في حب إمرأة غجرية وعندما تهجره من دون سبب واضح يصاب بالجنون، وتدفعه "الأنانية" إلى إدعاء القدرة على القيام بمعجزات خارقة، وعندما يسخر منه الجميع ويعتزلونه يقدم على الانتحار .
في الفصل الأخير من الرواية نكتشف أن القصة كلها كتبها خيال مريض، فالباحث ما هو إلا شخص مصاب بداء يعيقه عن الحركة، نزيل إحدى المصحات منذ طفولته، يعاني الوحدة القاتلة والتوهمات، يكتشفها الطبيب الذي يعالجه في مجلد بعد وفاة البطل، ليرسله إلى أحد أصدقائه من المتخصصين في التاريخ والذي سمعه مرة يتحدث عن لانغونهيرت .
الرواية ممتعة جداً، وخلف هذه المقدرة اللافتة على توريطنا في الأحداث، هناك تماس مع جزء خفي يكمن في أعماقنا حول تعاملنا مع الآخرين، وموقعهم في حياتنا، ما الذي نمنحه؟، وما الذي نأخذه؟ وماهي الأنانية؟ وكيف ننظر إلى "الغيرية"؟ وماهي الحدود الفاصلة بين الحلم والواقع؟ والعقل والجنون؟ والصحة الجسدية والنفسية . .، أسئلة وخواطر ربما يطرحها البعض ويشعر بها بين الحين والآخر، ولكن الفن الروائي الحقيقي بما يكسبه من أرض يوما بعد يوم هو القادر على صياغتها في جماليات سردية يستمتع بها الجميع وعلى مستويات ثقافية مختلفة .

محمد إسماعيل زاهر

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"