أصل التصوف (2-2)

05:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
د . عارف الشيخ
تحدثنا في المقال السابق عن أصل التصوف، ورجحنا أن يكون سلوكاً وممارسة، وليس مذهباً ولا فكراً، ولا علماً مستقلاً كعلم الفقه وعلم النحو مثلاً .
- لكن بما أن بعض الممارسات التي تنزع إلى الزهد والابتعاد عن دنيا الشهوات أصبحت بعد عصر الصحابة غريبة، أو الناس في غفلة عنها، فإن العلماء من حرصهم على الدين، حاولوا أن يجمعوا ثوابتهم في وعاء سمي بعلم التصوف .
كما أن الفقهاء والنحاة وأهل اللغة، جمعوا تلك الثوابت وتلك القواعد في أوعية سموها بعلم الفقه وعلم أصول الفقه، وعلم اللغة والنحو وهكذا .
- فالتصوف باختصار "استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دنيّ" . هكذا عرّفه إمام الزهاد جنيد البغدادي المتوفى سنة 297 من الهجرة .
- ومن هنا فإنني أرجح القول إن كلمة الصوفي مشتقة من الصفاء، وقد قال أبو الفتح البستي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
وظنه البعض مشتقاً من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى
صفا فصوفي حتى سمي الصوفي
- وإذا ترجح أن الصوفي من الصفا، فإنه من المهم جداً أن يصفو قلبه من أمراض القلوب، فلا يتأثر بالماديات، لأن من تعلق قلبه بالله تعالى ترفع عن الدنيويات، فصار يسبح في الملأ الأعلى من العليين .
- وعندئذ جاز أن نطلق على التصوف بأنه جزء من الإحسان الذي معناه "أن تعبد الله تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . وبهذا المفهوم عرفوا التصوف بأنه يشتمل على مقامين: مقام المراقبة ومقام المشاهدة، وهذا التعريف صحيح بشرط أن تكون الصوفية أرباب أعمال وأحوال كأعمال السلف وأحوالهم، لا أرباب دعاوى وأقوال كما نرى ونسمع من معظم مدعي التصوف في زماننا، وهم قوم اهتموا بالمظاهر، ونسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" (رواه مسلم) .
- وإذا كان فيلسوف كالإمام الغزالي، وفقيه كابن عابدين صاحب الحاشية المعروفة، ربطا علم التصوف بالإحسان الذي هو أحد أصول الدين الثلاثة، فإنهما بنية طيبة فعلا ذلك، لأن التصوف في نظرهما الإخلاص، والإخلاص هو جوهر العمل، قال تعالى: "واعبدوا الله مخلصين له الدين" .
وما نراه اليوم عند مدعي التصوف هو الرياء بعينه، إذ إنهم اهتموا بالقشور، وخلت أعمالهم من الإخلاص، وقد بينت الخفة التي يظهرها بعضهم بأنه لو خشعت قلوبهم لخشعت جوارحهم .
أقول هذا ولا أعمم، لعلمي أن الدنيا لا تخلو من قلة قليلة ستبقى دائماً على الحق إن شاء الله تعالى، وكم هو جميل قول الفضيل بن عياض: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين، وكلما استوحشت من تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك" .
- إذن كن متصوفاً يتتبع آثار السلف المبنية على الكتاب والسنة، وكن متسلفاً يتخلق بأخلاق الزهاد الذين قال عنهم ابن تيمية: "فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن الأدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد البغدادي وغيرهم من المتقدمين" .
إلى أن قال: "وهؤلاء لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت" .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"