الشاعر والتأمل

01:25 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

حاجة الشاعر للهدوء مثل حاجته للطعام والشراب، مثل حاجته للشمس والقمر والنبع والزهر والشجرة والنهر والبحر والسماء على اتساعها، فالهدوء ليس هو الشرط الوحيد للإبداع، لكنه العامل المهم في خلق صورة الشاعر، والناقل الرسمي لمجمل أفكاره في ساعة الجنون، ومنذ عصور سمعنا من شعراء خلقوا مدنهم في ساحات الوجد والتأمل والسكينة وسكب الوجع في حرارة السطور بعد الانعتاق من أسر المكان والزمان والتحليق في غابات مهجورة وأجواء مسكونة بالغرابة بعيداً عن كل الناس، فوقوف الشاعر قديماً على الطلل ما هو إلا هروب من ضجيج الوقت إلى ضجيج الذاكرة الهادئ وسكون الذات التي تصنع من هذا الضجيج قصيدة متوهجة.
قد تستوقف القصيدة الشاعر في قارعة الطريق ووسط الصخب مستدعية ذاكرته المتخمرة في الذات الصاخبة الهادئة، فذات الشاعر وحدها مدينة مشتعلة بالأفكار، ولا يمكن أن تخرج هذه الأفكار إلا من خلال محفزات الهدوء التي تنشط ذاكرة الخيال وترتب دولة المشاعر وتسكب زيت الكلام على صفحات مجهولة، صفحات تستقبل الحروف بعد أن تخمرت في عوالم الهدوء والسكينة، عوامل التأمل في الموجودات حتى آخر لحظة من الوصول إلى نقطة الانطلاق الحقيقية في ذات الشاعر، وقد سمعنا عن شعراء عرب يكتبون قصائدهم وسط ضجيج المدن ونار الفتن وعذاب المحن وصبوات الحب وعتاب الزمن، لكنهم لم يكتبوا وهم في الضجيج بأرواحهم، فالجسد قد يسكن المكان لكن الروح تنعتق إلى عوالم أخرى غير مرئية، وقد لا يصدق أحد أن شاعراً كان يروي قصته مع الهدوء وأنه كان يستيقظ في الصباح على أصوات العصافير التي تحلق حوله، وإن كان يستغرب أنه كلما جلس في مكان ما فإن الطيور تقترب منه على مسافات بسيطة، فهل الروح الهادئة هي التي جذبت له عنصر الطير، وهل نزوعه للهدوء والسكون كي ينطلق يطابق منطق الطير في السكون ثم الطيران، هكذا نفس الشاعر ساكنة وادعة لكنها تحترق مع الكلام وتتطاير مع الحروف وتشتعل بعد سكينة ووقار، ما يجعلنا نفكر في فلسفتنا الداخلية التي هي وليدة كل تأمل، والباعث على اكتشاف حقائق الوجود التي أرسلت في دواخلنا إشارات ونبضات، لنصل في نهاية الرحلة إلى حقيقة اكتشافاتنا الإبداعية التي لا تنفصل عن عوالم الشعر والأدب والفن.
لا يكتمل ركن الإبداع إلا بخصائص تشف عن روح التأمل والغوص في تفاصيل غير مرئية للآخر، فالبواعث التي تحدد شروط الصفاء الوجداني والتطلع إلى فضاء واسع يبدل جزئيات النفس ويجمعها مرة أخرى في صورة أحاسيس وأفكار تنمي غريزة الهدوء فتملأ الروح ببواطن الجمال، وقد أشيع عن أدباء مارسوا فن الهدوء وسط غيمات التكامل في سكون الحياة ونجحوا في تنظير التجربة وتجذيرها في عالم لا يحمل سوى الهموم الجماعية والآلام الفردية والتطلعات العدوانية.
الشعر هو الفن الأكثر ألفة والأكثر غوصاً في المعاني والذي يخضع إلى الروح الملهمة التي تكبر بوعي ومن دون وعي كأنها في محراب الوحي تستقبل ما يملى عليها في جسارة وبوح، ومعظم الأدباء الذين حفروا أسماءهم في ملكوت الإبداع كانوا من الذين يدركون جوهر التأمل والبحث عن موانئ الهدوء، فالماء يقابله النار، الماء هو القصيدة الجارية من منبع الهدوء، والنار شعلة في داخل الشاعر، والهواء مسرى الكلام إلى النور، والريح وسادة القصيدة وقاعدتها التي تنطلق من خلالها إلى هذا العالم الذي يستقبل هدوء المبدع على جمر الكلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"