النبطي ونسبه

02:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
يقول أرسطو "الفلسفة وليدة الدهشة" والإدهاش هو الطريق الذي يوصل العمل إلى طريق الخلود والرسوخ في الذاكرة، ويوضح الزهاوي هذه الدهشة بالهزة التي تصيب المتلقي عند سماعه الشعر فيقول:
إذا الشعرُ لم يهززك عند سماعه
                فليس خليقاً أن يقالَ لهُ شعرُ
وإذا كانت الدهشة هي أساس الفلسفة كما يراها أرسطو، فإن هذه الدهشة لا تأتي إلا من خلال مكونات النص أو الفكرة التي تعمل على دغدغة الشعور وبث شحنة مفاجئة يتحرك معها لا إرادياً بالإعجاب أو بخلافه، فعنصر المفاجأة وكسر أفق التوقع مكونان من مكونات هذا الشعور، وهذا لا يأتي إلا من خلال معاناة مع القصيدة بما يسبقها من قراءات وثقافة وتراكمات لغوية وسعة أفق وخيال، فمن دون التخييل والانطلاق بحرية في فضاء النص الشعري ستأتي القصيدة بسيطة اللغة ضعيفة الصورة مترهلة لا تحرك السواكن ولا تهز المشاعر، ويقول الشاعر سالم الزمر على المعنى نفسه أعلاه:
هز المشاعر صعب وإشعالها صعب
                دون القصيدة كيف أهز المشاعر
هذه المعاناة هي التي تصنع النص الحقيقي القادر على صنع الدهشة، فهناك ما يسهل التقاطه من كلام، لكن الأصعب في البحث عن البسيط الذي لا يستطيع العامة قوله وهو ما يسمى "السهل الممتنع" لتمنعه عن الكل واختصاصه بأهل الدربة والخبرة والموهبة الذين يتعبون على الإتيان بالبسيط الصعب، كما يقول الأمير خالد الفيصل:
يا مدوّر الهيّن ترى الكايد احلى
                  اسأل مغنّي كايدات الطروقي
إذن فالدهشة لا تقتصر على فن دون آخر، وإذا ما أخذنا الشعر مثالاً فإن الدهشة ليست حكراً على الشعر الفصيح دون الشعر الشعبي، لأن الشعر الشعبي بدأ في التوغل في الوجدان العربي ودخل إلى المجتمع منذ زمن بعيد، لكن الغموض يلف هذه البداية وهو ما يؤكده الدكتور سعد الصويان في مؤلفه "الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون" بقوله: "مرحلة انتقال الشعر في بادية الجزيرة العربية من النمط الكلاسيكي إلى النبطي يلفها الغموض، نظراً لاتساع الفجوة الزمنية التي تفصل بين آخر نموذج وصلنا من الشعر البدوي الفصيح، وبين أول نموذج وصلنا من الشعر النبطي . . تتسم هذه الحقبة من تاريخ الجزيرة العربية بالاضطراب، وشح الوثائق المدونة . . فنحن لا نعرف بالتحديد المراحل التي مرت بها لغة الشعر في الصحراء العربية، في تحولها من الفصحى إلى العامية، ولا متى طغت العامية على اللغة، وبدأ أعراب الجزيرة الأميون ينظمون شعرهم بلغة لا نتردد ولا نتحرج في إطلاق صفة العامية عليها، لغة تخطت مرحلة الفصاحة وتجاوزت ظاهرة اللحن، لتصبح عامية غامرة لا تخطئها العين" .
كذلك فإن الدكتور الصويان أشار إلى ما ذكره ابن خلدون في مقدمته عن شعر البدو مؤكداً خصائصه اللغوية وسماته الفنية والأدبية بقوله: " أما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام" .
وقد وصل الشعر النبطي إلى مراحل متطورة في مكوناته الفنية في هذا العصر من خلال الاتجاه إلى كتابته بلغة حديثة تحمل سمات وفنيات تتجدد مع الزمن، ولا تتوقف عند نقطة يتباكى فيها الشعراء على أطلال من سبقهم، فاللهجة البيضاء أو اللغة الثالثة كما يطلق عليها بعضهم أسهمت في خروج القصيدة الشعبية من نطاق محليتها إلى مساحات شاسعة تصل فيها إلى شرائح مختلفة، وتتحدث بلسان عربي مبين إلا من اللحن والخروج على قواعد النحو والصرف، وبذلك استطاعت أن تصنع الدهشة، وتحقق الهدف من البقاء والوصول .


محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"