بالأمس كانوا هنا

03:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
غالباً ما أتحاشى المرور أمام قصر الثقافة في الشارقة، ليس لأنني لا أحب هذا الصرح الثقافي الكبير الذي تشع من بين جدرانه الثقافة لينتشر الضوء خارجه باسطاً جناح المحبة على خريطة واسعة شاسعة، وليس لأنني كما يقول المثل "أتغلى عليه" فهو وإن كان بناء هندسياً جميلاً فإن الإنسان جعله بالثقافة كائناً نابضاً بالمعرفة والفن، لكن هذا المكان بحجم ما ضم بين أروقته من ذكريات أحداث وفعاليات جميلة، بحجم ما تشعر أنك تقف على أطلال الذين كانوا فيه، وتتذكر بكائيات القصيدة العربية قبل أن ينقد أبو نواس ذلك الوقوف بقوله:
قل لمن يبكي على رسمٍ درس
واقفاً . . ما ضر لو كان جلس
قبل أيام قليلة التقى في هذا القصر الثقافي الجميل مجموعة من الرائعين الذين حلقوا بالكلمة الشعرية في سماء المحبة، وهزوا بحرفهم الشجي المشاعر، وأعادوا للحضور بريقه وللذائقة وهجها وللقصيدة توهجها، هذه الأسماء الشعرية العربية التي كانت شارقة الثقافة مظلتهم تركوا من خلال مشاركتهم في مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته الثالثة عشرة ذكرى طيبة، وكانت أيام المهرجان الستة أشبه بالعرس، فقد كانت الحشود تتوافد على هذا المكان قبل بدء الفعالية بساعات، وشهدت القاعة التي تنفست الشعر وجماله مدى حضورهم وصبر بعضهم على الوقوف للاستماع والاستمتاع بالشعر، وهذا لم يأت إلا من خلال ما لقيه الشعر من دعم متواصل من قبل راعي الثقافة والأدب والفن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وبهذا الدعم كنا نجد مساحات مفروشة بالورد ذللت بفضل الله ثم بفضله الكثير من العقبات، وكان الجميع أسرة تحاول أن تبتعد عن النقص والتكاسل لتصل إلى التمام الذي قال عنه المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً
كنقصِ القادرين على التمامِ
أكد حضور الشعر واهتمام الشارقة به أن له دوراً كبيراً في تأكيد إنسانية الإنسان، وأن ذائقة العرب لن تتخلى عنه، وأنه سيبقى ديوانهم الخالد مهما مر به من ترهل وتراجع وتشويه وتغريب، إلا أن الغيورين على القصيدة العربية سيحافظون على دورها في التأثير في الوجدان العربي الذي تربى على النغم الشجي والرقص البديع، ويوماً بعد آخر نجد أن الحاجة للشعر تكبر وتكبر، فهو يؤكد حضوره بقوة في قضايا الناس، ويشاركهم همومهم مثلما يشاركهم أفراحهم، ويعالج قضاياهم المختلفة بأسلوب فني أدبي يبتعد عن الغطرسة والتعصب وغلظة الكلمة، ويستطيع الشعر أن يجلد الذات بكلام رقيق شفيف تصفق له المشاعر وتستعذبه وتطرب له، وهذه الخاصية لا يقدر عليها إلا من تمكنوا من زمام الحرف، وامتلكوا فنيات الكتابة .
ذهب الشعراء الذين شاركوا في مهرجان الشارقة للشعر العربي وغادروا الشارقة محملين بذكريات التقائهم الجميل، وبالتعارف وجلسات الشعر والنقد الحميمية وكأنهم يحملون في حقائبهم محبة شارقة الإنسانية والشعر، وتركوا للمكان وجدهم وعزفهم، لكن رحيلهم كان رحيل جسد عاد إلى وطن يحن إليه ويشتاقه، بينما بقيت أناتهم وتجلياتهم الشعرية حاضرة، وحين يمر المحب لهم ولما نثروه من ورد الشعر وعطر الكلام تسبق الدمعة حرفه، وكأنه يتساءل مثلما تساءل الشاعر العباسي ماني الموسوس ويجيب على نفسه في حواريته الشعرية يا حادي العيس:
إن البدور اللواتي جئت تطلبها
بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا
ذهبوا وأنا أقول لهم: لنا أملٌ حين تُفرغُ تلك الحقائبُ من بطنها ما حملتمْ، تعودونَ للبحثِ فيها، بها ما سيكملها حين كانت هنا، فتشوا يا صحابُ، بها قلبُنا . . دمعُنا . . قبل هذا وذاك، بها الشارقة .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"