حنين الطفولة واللغة

02:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
لم نكن في طفولتنا نحمل هواتف نقالة بها "واتساب" و"فيس بوك" و"تويتر" و"إنستغرام"، وبها كل المزايا التي تربطنا بالعالم من خلال الشبكة العنكبوتية والتصفح السريع، فكنا "مقطوعين من شجرة" التكنولوجيا الحديثة، وكان صديقنا الذي أجبرتنا الظروف عليه هو "الكتاب" هذا الذي نسأل عنه في فصول الدراسة، "ونفصفص" أوراقه ونقلبها ونحفظها، وحين نعود إلى منازلنا يتبعنا كالظل أو القدر المحتوم، فلا رحمة منه، أو كما يقول الشاعر "ما كو فكة" ففي البيت جلسات تحقيق مطولة وأسئلة متلاحقة عن الإنجاز الذي قمنا به في المدرسة وكأننا نتنقل من معسكر إلى آخر، والحقيقة أن هذا المعسكر يشبه معسكر الخدمة الوطنية فهو تربية حقيقية عرفنا من خلالها قيمة المعرفة، وأحسسنا بعد سنين بأهمية الثقافة والأدب والعلوم الأخرى التي تسهم في بناء الذات والوطن .
في هذا العصر توفرت كل سبل الراحة، "فبكبسة زر" تستطيع أن تصل إلى المعلومة من دون الحاجة إلى فتح "شنطة" الكتب، ولا قطع مسافة طويلة على النفس بين السرير والمكتبة، ثم البحث في زحمة الكتب عن معلومة، لكن البعض لم يستفد من هذه الخدمات، فأصبح الهاتف هو الشغل الشاغل في كل مكان، فسائق السيارة عينه على تلك الشاشة الصغيرة التي قد تلهيه عن الطريق ومفاجآته، وقد تفقده حياته فداء لهذا العشق الذي يفوق عشق قيس لليلى، وأصبحت الحوادث المرورية في الأسواق "والمولات" كثيرة، وهي ليست حوادث بين سيارة وأخرى إنما حوادث أجساد تصطدم ببعضها وهي منشغلة بالهاتف النقال، ويستطيع الواحد منا أن يشاهد على الهواء مباشرة الجنون المبتكر وبصورة عصرية مختلفة من خلال أشخاص يمشون في الشارع بلا عقل ويضحكون وتحسب ضحكهم بلا سبب وهم في الحقيقة يتحدثون بسماعة مخفية عن عينك، أو يقرؤون شيئاً على "واتساب" لا تلاحظه أنت، ولذلك كانت الطفولة في السابق بعيدة عن صراعات العالم الخارجي وتشنجات أحداثه وتقلبات مزاجه، وكأن مناخها برياً غير ملوث بأدخنة هذه المتغيرات، فهو المناخ الفطري الذي ورثه العربي من طبيعته المحلقة في فضاء البساطة والباحثة عن كلأ النقاء بحثاً عن الحب وعن الشدو المنبعث من الألحان التي تريح الفكر من الضجيج والضوضاء .
كان الشعر مرتبطاً باللغة ارتباطاً وثيقاً، ومن خلاله يدخل الطالب إلى فنيات الكلمة وقواعدها بمحبة ويسر، فالنصوص المقررة فتحت الباب على مصراعيه للطالب إلى محبة الشعر واللغة معاً، ومال آخرون إلى القرب أكثر من خلال محاولة كتابته، وتخرج في هذه المرحلة من يحملون على عاتقهم وردة الشعر ليقدموها هدية إلى المجتمع .
الشعر ضرورة من ضرورات الحياة، واعتبره العرب ديوانهم، فقد كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية لتعلم الفروسية والشعر لإيمانهم بأهمية أن يكون مرافقاً للشجاعة، والشجاعة في حاجة إلى حكمة الشعر وإلى عزفه الذي ترتاح إليه النفس حتى وهي تخوض معركة طاحنة بين طعن القنا وخفق البنود كما يقول المتنبي، وهذا عنترة العبسي يجسد حضور وأهمية الشعر وهو يخوض غمار الحرب متسلحاً بالمحبة التي باح بها الشعر:
ولقد ذكرتُك والرماحُ نواهلٌ
                مني وسيف الهند يقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها
                    لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ
لكن هذا الشعر الذي عرفناه ضرورة فطرية بشرية والذي يؤكد معان كثيرة، ويعمل على التواصل بين الأمم ويرسخ هوية الشعوب ويتلمس إنسانية البشر يحتاج إلى أن يرافق البشر منذ صغرهم، ويكون صديقاً مقرباً إلى الطفولة، لأن "العلم في الصغر كالنقش في الحجر" وفي غياب هذا التفعيل سنرى أجيالاً مبرمجة على التكنولوجيا، وربما تفقد بسببها ذلك النبض الشفيف الذي يزرعه الشعر في تربة الطفولة .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"