«تسونامي» يعصف بصحافة لبنان

04:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

تواترت الأنباء من لبنان خلال الأسبوع الماضي عن أزمات مستعصية تعصف بصحف لبنانية وتهدد بعضها بالإغلاق. الصحافة اللبنانية هي من أعرق وسائل الصحافة العربية، وظلت لأمد طويل هي الأكثر تقدماً على المستوى المهني في المنطقة العربية.
العاملون في الصحافة وهم بالآلاف، لا يفاجأون بالانتكاسة التي تصيب الصحف، ولكنهم مصدومون للسرعة التي تتهاوى بها صحف ورقية كبيرة، أمام تحدي وسائل الاتصال الإلكترونية والرقمية.. لو كانوا رؤيويين اكثر لما تفاجؤوا بهذا التطور المتوقع.
في بلد مثل لبنان فإن الصحافة لا تتمتع بأي دعم حكومي، لكنه ليس سراً أن معظمها يحظى بتمويل سياسي من الداخل أو الخارج أو كليهما.
من الواضح أن ظروفاً داخلية وخارجية، أسهمت في تعميق أزمة الصحافة الورقية في بيروت، منها تضاؤل سوق الإعلان حيث باتت الوسائل الإلكترونية تنتزع حصة كبيرة من كعكة الإعلانات، إضافة إلى ضعف الإقبال على النسخة الورقية من طرف الأجيال الجديدة، علاوة على الظرف السياسي المتمثل بالاضطراب الذي أصاب علاقات لبنان العربية.
ومن الملاحظ أن الصعوبات التي تعترض الإصدار الورقي أخذت تدفع صحفاً مرموقة في العالم للاكتفاء بالنسخة الإلكترونية مع ما يؤدي إليه ذلك من تقليص كبير في صفوف المحررين والإداريين والفنيين، كما فعلت صحف عديدة منها الإندبندت البريطانية.
واقع الحال أن لهذا الواقع القاتم وجه آخر أقل قتامة. فقد أصبح إنشاء مواقع إخبارية أو حتى صحف إلكترونية أقل بما لا يقاس من التكلفة الباهظة لإصدار مطبوعات ورقية يومية. ومعنى ذلك أن باب المنافسة الذي كان مغلقاً، قد تم فتحه وتشريعه. هناك الآن ما لا يحصى من المواقع باللغة العربية، ومن يصمد في المنافسة ومن يتمتع بقدر من الصدقية ويحظى بثقة القارئ والمعلن ، فإن فرصة بقائه تكون أكبر.
وبالنسبة للصحافة اللبنانية فلعلها قد تأخرت بعض الشيء في التكيف مع الثورة الرقمية، ومع انصراف الأجيال الجديدة لمتابعة ما هو إلكتروني ورقمي على حساب كل ما هو ورقي. وإن كان ذلك ليس هو السبب الوحيد، إذ لعبت الظروف السياسية الدور الأكبر في إضعاف بعض الصحف التي لم تنجح في الحفاظ على هامش استقلالية كافٍ، وهو ما يصح معه القول: تعددت الأسباب و«الموت» واحد..
على أن راهن ومستقبل الصحافة ووسائل الإعلام مرتبط بالظروف العامة في كل بلد رغم الإقرار باكتساح كل ما هو إلكتروني ورقمي لغيره. ففي بلد مثل مصر فإن الصحافة الورقية ما زالت تشهد ازدهاراً. لا يتعلق الأمر بالصحف والمجلات العريقة فقط، بل كذلك بصحف ومطبوعات أخرى ظهر معظمها إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. ويتم توزيع صحف اليوم التالي ابتداء من التاسعة ليلاً، وذلك نظراً لظروف المدن الكبرى وخاصة القاهرة التي تتسم الحياة فيها بالسهر حتى منتصف الليل على الأقل!.
كذلك الأمر في المغرب، إذ إن أكشاك الصحف والمجلات تزدحم بالصحف والمجلات والمطبوعات الدورية المحلية وبعضها بالفرنسية، التي يقبل عليها القارئ المغربي من مختلف الشرائح، وتشهد على ذلك ظاهرة قراءة الصحف في أعداد هائلة من المقاهي. وبنظرة سريعة تبدو هذه المطبوعات الورقية وقد تضاعف عددها خلال العشرية الأخيرة، التي تعاظمت فيها سطوة ما هو رقمي وإلكتروني.
علما بأن هناك مئات من صحف ومطبوعات المدن والمناطق، ما زالت تصدر في غير مكان في العالم، وتخاطب جمهوراً خاصاً وفي رقعة جغرافية غير كبيرة. إنها أشبه بالمشاريع الصغيرة وأحياناً المتوسطة.
يتحدث كثيرون عن انقراض ينتظر الصحافة الورقية خلال السنوات القليلة المقبلة في العالم، لكن ذلك ليس قدراً. سوف يكون هناك تقليص كبير في حجم وفي أعداد المطبوعات الورقية، لكن ما هو ورقي سواء كان كتاباً أم صحيفة يظل يحتفظ بجاذبيته الخاصة، وفي دول ، حجم الإعلان فيها هائل مثل دول الخليج العربي ، فإن الصحافة الورقية ليست مهددة أبداً بالإغلاق والاندثار.
لكن وفي مجمل الأحوال فإن الصحافة الورقية تقف أمام التحدي الإلكتروني الجسيم، وعليها أن تتكيف بسرعة بالجمع بين ماهو إلكتروني وورقي، مع إيلاء اهتمام أكبر للنسخة الإلكترونية القابلة للتحديث على مدار الساعة. وحين يتحوّل الإصدار الورقي إلى عبء مالي يستنزف الموارد، فعلى إدارات التحرير مغالبة عواطفها، والتوقف عن هذا الإصدار على أمل أن يكون التوقف مؤقتاً.
نختم بمقولة رددتها مؤخراً خبيرة لبنانية في الإعلام هي زهرة حرب، كبيرة المحاضرين في الإعلام الدولي بجامعة سيتي في لندن، ومفاد المقولة أن الصحافة لا تندثر ولا تختفي، بل تغيّر جلدها. أنت تقرأ صحيفة ورقية ثم تقرأ الصحيفة نفسها بعد فترة على اللوح الرقمي. أنت لم تفقد صحيفتك، ولا الصحيفة فقدت قارئها. إنه فن التكيف والتطور والبقاء. وقد عادت «النيوزويك» إلى الطبعة الورقية، وصدرت صحيفة ورقية جديدة في بريطانيا هي «نيوزدي».
ولا شك في نهاية المطاف أن الاتصال والتواصل والإبلاغ والأخبار التي توفرها وسائل الإعلام هي حاجات بشرية أصيلة غير قابلة للانقراض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"