آراءٌ عربية حول الثورة المصرية

05:10 صباحا
قراءة 5 دقائق

قادتني ظروف الترشيح لمنصبٍ قومي إلى القيام بجولة في ثماني دول عربية، أربعة مغاربية وأربعة مشارقية، وذلك خلال تسعة أيام فقط، ويعلم الله وحده مدى الجهد الذي بذلته أنا والمرافقون معي في إتمام هذه الجولة، ولكن بعيداً عن ذلك المنصب القومي . فإنني أسجل بعض الملاحظات التي استمعت إليها في جولتي التي شملت لقاء مع رؤساء للجمهورية ورؤساء للحكومات ورؤساء للبرلمانات ووزراء للخارجية وسفراء مرموقين وشخصيات عربيةٍ تعشق مصر وتعرف قدرها وتحيي ثورتها وتعبر عن فرحتها بعودة مصر إلى مجالها العربي وممارسة دورها الطبيعي، ولعلي أوجز تلك الملاحظات في المحاور الآتية:

* أولاً: يدرك معظم المتحدثين حجم الفساد الذي كشفت عنه الثورة الشعبية المصرية، فلقد كان الكل يدرك أن مصر مكبلة اليدين ومعدومة الإرادة ومازلت أتذكر تعليقاً للصديق الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير خارجية السودان الأسبق عندما قال أمامي منذ سنوات إن مصر تبدو كالفيل عندما يجري حبسه في حجرة لذلك فإن الترحيب العربي بالثورة المصرية نابع من استعادة القاهرة لدورها القومي في جميع الاتجاهات، ولقد جاء إتمام المصالحة الفلسطينية في العاصمة المصرية منذ أيام بمثابة إعلانٍ عن استعادة الكنانة لدورها القومي وخروج الفيل الضخم من الحجرة الضيقة .

* ثانياً: يبارك الأشقاء العرب بالتقدير والعرفان دور القوات المسلحة المصرية ومجلسها الأعلى الذي يدير البلاد في نزاهة وتجرد، وينحاز إلى الشارع المصري من دون أن تستبد به شهوة الحكم أو الرغبة في القمع أو تقييد حركة الثوار . إن الثورة المصرية تبدو لهم ولغيرهم نموذجاً فريداً يستهوي الجميع بالدراسة ويدفعهم إلى التأمل، ولكن الجميع لا يخفي أيضاً قلقه مما يمكن أن تتعرض له هذه الثورة العظيمة من أزماتٍ داخلية ومشكلاتٍ ذاتية، فما أكثر الثورات عبر التاريخ التي أكلت أبناءها بل وأطاحت بمن قاموا بها وأسكتت المؤيدين لها باسم الثورة ومبادئها! لذلك فالكل يعوّل على الذكاء الفطري للمصريين وحبهم الشديد لبلدهم وحرصهم عليها، كما يعولون على فطنة المصري العادي وقدرته على فرز المواقف والتمييز بين الأفكار واستخلاص المعدن الأصلي من الشوائب التي تختلط به، بالنفاق للثوار أحياناً والمبالغة في تعظيم المواقف أحياناً أخرى، فالثورة الصادقة مع نفسها هي التي تقود .

أما الثورة التي تعيش بالأوهام فإنها قد تنتكس ولا تعود .

* ثالثاً: يخشى الكثيرون من عشاق مصر في الوطن العربي من شهوة الانتقام وروح التصفية التي تسود بين الأغلب الأعم من المصريين، ويرون أن تلك الروح الوافدة لم تكن طبيعتهم عبر تاريخهم، فهم معروفون بالوسطية والاعتدال بل والتسامح أيضاً، وعندما نرد عليهم بأن حجم الفساد السياسي والمالي والإداري وتقزيم دور مصر واختلاط السلطة بالثورة وشيوع الفقر، كلها عوامل شحنت المواطن المصري وغيرت من فطرته وبدلت من طبيعته وجعلت روح الانتقام لديه مبررة ومشروعة، فإن هذا الرد يبدو مقنعاً للبعض ولكنه لم يكن كافياً ولا شافياً لدى البعض الآخر، فهم يرون أن الثورات العظيمة تكون دائماً أكبر من الانتقام وأقدر على امتصاص المواقف والخروج إيجابياً عندما تضرب الفساد وتطهر الصفوف وتتجه نحو البناء الحقيقي لدولة عصرية حديثة بدلاً من التجمد أمام عمليات هدم الماضي البغيض دون التهيئة للبناء الجديد .

* رابعاً: إن الحفاوة التي قوبلت بها في كل العواصم العربية التي زرتها جعلتني أدرك أن الكل يعرف قيمة مصر ويدرك المعدن الحقيقي لرجالها ويفهم مواقفهم في الماضي والحاضر، ويثمن قيمتهم الفكرية ورؤيتهم السياسية، وهو ما شجعني لإجراء عدد من الاتصالات ببعض الوزراء وكبار المسئولين في دول الخليج العربي ممن يلتزمون بدعم المرشح المنافس، ولقد سمعت منهم ما أثلج صدري تقديراً لمصر ومرشحها، واعترافاً بقدرها ومكانة أبنائها حتى ولو كان التزامهم الجغرافي يصب في اتجاهٍ مختلف إلا أنهم سجلوا جميعاً احترامهم للكنانة وطناً وشعباً وجيشاً . وما أغراني بأن أطلب موعداً مع أمير الدولة التي قدمت المرشح المنافس قبل ترشيح بلادي لي بعدة أسابيع وهو ما يدحض الزعم الذي ردده البعض من أن ذلك البلد الشقيق يتخذ موقفاً شخصياً مني وهو ما لا أعتقده، خصوصاً أنني كنت دوماً داعماً لطموح ذلك البلد وغيره من الأقطار العربية، ولي كتابات مسجلة منذ سنوات في هذا الشأن ولا يستطيع أحد أن يجادل في قوميتي أو عروبتي أو رؤيتي، خصوصاً أنني أستند إلى أعظم الأوطان وأكثرها إيماناً حقيقياً بعروبتي وإفريقيتي واعتزازي بالإسلام الحنيف والمسيحية الصافية بل واليهودية الصادقة .

* خامساً: فاتحني البعض أثناء جولتي في مواقف عددٍ من ثوار التحرير وتنظيماته تجاه المرشح المصري، ولكنهم أعفوني من الإجابة عندما ذكروا مباشرة أنهم يدركون أنه في أعقاب الثورات تبدو هذه ظواهر طبيعية حتى في تقييم الملائكة ذاتهم وليس البشر فقط، وقد أضفت إليهم أن أي محاولة عادلة ونزيهة لقياس الرأي العام المصري سوف تعطيني ما أستحق، ثم ذكرت لهم أسماء عددٍ كبير من قيادات شباب الثورة الذين أعتز بدعمهم وأقدر فهمهم العادل لتاريخ الأشخاص بما فيه من نقاطٍ مضيئة بدلاً من التركيز فقط على بعض الأخطاء البشرية التي لا يبرأ منها مواطن، خصوصاً إذا كانت دراسته ومهنته هي علم السياسة، لذلك فإن وجوده على المسرح العام ولو في دور هامشي أمر يصعب تلافيه، وليست العبرة عندئذٍ بحكمنا على النظام بقدر ما يكون حكمنا على أبناء الوطن أنفسهم بما لهم وما عليهم .

* سادساً: إن العاشقين لمصر والمحبين لشعبها في العالم العربي أكبر وأضخم وأعظم مما نتصور، ولقد أدركت ذلك من إلمامهم بالتفاصيل الدقيقة ومتابعتهم الكاملة ليوميات الثورة المصرية وآرائهم الصائبة في تطوراتها وحتى المتعاطفين منهم مع الرئيس السابق بشيخوخته ومرضه لا يستنكرون على المصريين أبداً حقهم في استرداد أموالهم المسلوبة وأموالهم المنهوبة، ويتفقون معنا في أنه قد جري تجريف الوطن من موارده وعوائده وكوادره في وقتٍ واحد .

* سابعاً: يدرك أشقاؤنا أن الثورة المصرية سوف تواجه تحديات خارجية ومخططات أجنبية من كل من كانوا سعداء بغيبة الدور المصري وتراجع مكانة الكنانة عبر العقود الأخيرة ويشعر هؤلاء الأشقاء بأن الدور المصري وهو يستعيد عافيته ويسترد مقوماته سوف يدخل في مواجهات لابد منها ولا يمكن تلافيها، ولكن التفاف الأشقاء حول مصر ودعمهم لها سوف يكون خير عونٍ أمام أعداء العروبة والقومية برؤيتها الحديثة التي تقوم على التواصل والاندماج، بدلاً من الشعارات الجامدة والأفكار المتحجرة .

. . هذه قراءتنا من جولة سريعة شملت المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس كما شملت أيضاً الأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية ولبنان إلى جانب اتصالاتٍ داعمة كان أبرزها قادماً من عاصمة العباسيين بغداد قلعة النضال وخاصرة بلاد النهرين، كما أن دور الأرض المقدسة مهبط الرسالة ومنزل الوحي في دعم مصر سوف يظل شاهداً على الأخوة العربية والعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وتبقى الثورة المصرية التي غيرت موازين القوى في المنطقة وجعلت صورة مصر مصدر شموخٍ واعتزاز، تبقى هذه الثورة حاضنة لدورنا الذي ما كان يمكن أن يتاح لنا لولا ما جرى منذ الخامس والعشرين من يناير عام 2011 . . إنها انتفاضة شباب وثورة شعب ورسالة أمة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"