أدوات الماضي وآليات المستقبل

04:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.مصطفى الفقي

يثور تساؤل دائم بين فلاسفة التاريخ ومؤرخي الجغرافيا والمعنيين بتطور العلوم الإنسانية بل والتطبيقية حول أهمية المحاور المفصلية في التاريخ الإنساني للانتقال من مرحلة إلى أخرى، فكما أن اختراع العجلة كان انقلاباً حقيقياً في وسائل الانتقال بتحويل الحركة الدائرية إلى حركة أمامية في ذات الوقت فإن اختراع الطباعة كان نقلة نوعية في منتصف القرن السادس عشر، والذي يعنيني هنا هو أن أسجل أن آليات الماضي قد اختلفت بالضرورة عن أدوات المستقبل وليس من شك في أن المعنيين بدراسة أساليب التطور الإنساني والانتقال إلى مستويات أرقى في التفكير البشري يدركون أهمية هذا النمط من الدراسات الاستشرافية بالنسبة لمستقبل الإنسان على الأرض في ظل تهديدات خطيرة يتصل بعضها بتغير المناخ، والبعض الآخر بشح المياه، والبعض الثالث بنقص الطاقة فضلاً عن عشرات التهديدات الفرعية التي تؤثر في الحياة في المستقبل مثل نحر البحار لليابسة، والانفجار السكاني المخيف، وتآكل الموارد الطبيعية مع مر القرون وذلك كله يقتضي تفكيراً يخرج من دائرة الحاضر لكي نتأمل صفحات المستقبل، ولعلي أطرح هنا بعض التساؤلات:
أولًا: إنني ممن يؤمنون بأن كل كائن يحمل في داخله عوامل فنائه، لذلك لا يخالجني شك في أن البشرية هي الأخرى تحمل في طياتها عوامل التدهور وأسباب التردي ولا أجازف فأقول ومقدمات النهاية أيضا، إنني ممن لا يفرطون في التشاؤم ولكنني أنتمي إلى مدرسة أولئك الذين يفضلون البحث في المستقبل وفقا للسيناريو الأسوأ فإذا جاءت الأحداث بشكل أفضل فحبا وكرامة، أما إذا جاءت في إطار سلبي فالحيطة لازمة خصوصاً في إطار البحث العلمي الجاد.
ثانيا: يتوهم الكثيرون أن التاريخ يعيد نفسه كما هو، وقد يكون ذلك مقبولاً بالنسبة للأحداث ولكنه ليس دقيقاً ولا حتى صحيحاً بالنسبة لتاريخ الأفكار، فالرؤية تتسع والمعرفة تزداد، والملاحظ هنا أنه كلما اتسعت مساحة الرؤية وحجم المعرفة فإن مساحة وحجم المجهول يتزايدان على الجانب الآخر، وقد كان البعض يتوهم أن التقدم في الاكتشافات والاختراعات ينتقص من حجم ما هو قادم ولكن الأمر المثير للجدل والجدير بالملاحظة هو أننا كلما عرفنا أكثر جهلنا أكثر! وذلك من شأنه أن يجعل مهام الأجيال القادمة أكثر صعوبة وأشد وطأة إذ إن الاكتشافات والاختراعات لابد أن تكون مفيدة وتضيف إلى المسار البشري جديداً.
ثالثا: إن التدافع الذي شهدته دول كثيرة منذ منتصف القرن العشرين نحو الدراسات التطبيقية مع تنامي الوعي بالثورة الصناعية ونتائجها وأهميتها في الخروج بالاقتصاد الوطني من أزمته إلى آفاق جديدة قد أدى إلى تراجع أهمية بعض الدراسات النظرية للعلوم الإنسانية، ولم يفطن الكثيرون إلى أن التقدم يعتمد على جناحين أحدهما نظري والثاني تطبيقي بحيث لا ينهض أحدهما دون الآخر، فإذا كانت العلوم النظرية تصب في قناة الفكر فإن العلوم التطبيقية تصب في قناة العلم، والفكر والعلم معا هما قاطرة التقدم ولا ينبغي الفصل بينهما في التأثير على الاتجاه إلى الأفضل، وإذا بحثنا في تاريخ العلماء والمخترعين سوف نكتشف أن هناك خلفية فكرية - وقد تكون فلسفية - هي التي وقفت وراء ما وصلوا إليه وما تحقق على أيديهم للإنسانية كلها، كما أنه لا يكون مفكراً حقيقياً ذلك الذي لا يدرك أهمية البحث العلمي في مسيرة البشرية.
رابعًا: لا يخفى على أحد منا أن الصراعات تملأ الساحة الدولية كما أن الحروب الإقليمية تستنزف جزءاً كبيراً من إمكانات الإنسان وموارده الطبيعية وذلك يؤثر كله في معدلات النمو بوجه عام، وأنا ممن يظنون أن الحياة هي صراع مستمر يتولد عن المواجهات مع مراحل جديدة في حياة البشر.
خامسا: إن تطور أساليب التعليم والانتقال به انتقالات نوعية وفقاً للطفرات التي تحدث في عالم المعرفة هو أمر أساسي في مسيرة التقدم والانطلاق إلى الأمام، كما أن عملية (التهجين) الحديثة بين علوم مختلفة أدى هو الآخر إلى فتح آفاق جديدة لم تكن متاحة من قبل .
سادسا: إن العلم يحمل في طياته طرحاً مختلفاً لكثير من المشكلات المعاصرة كما أنه يقدم حلولاً مبتكرة للكثير منها ولكن ذلك أمر لا يمكن التعويل عليه بشكل مطلق، إذ إن هناك أهمية كبيرة لوجود إرادة إنسانية فاعلة تطرق الأبواب وتفتح النوافذ أمام فكر جديد وعقل مختلف ورؤية أوسع.
هذه نظرة مختصرة لأطروحات نظرية لها أهمية كبيرة في الانتقال من أدوات الماضي إلى آليات المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"