أزمة الغابون والديمقراطية في إفريقيا

03:25 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي
فور إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية في الغابون، في نهاية الشهر المنصرم، اندلعت أعمال العنف والفوضى في العاصمة ليبرفيل حيث أُحرق مبنى البرلمان، ودُمرت ممتلكات عامة وخاصة، وسقط عدد من القتلى، وعشرات الجرحى، واعتُقلَ المئات من المتظاهرين ومن زعماء المعارضة على يد قوات الأمن. وكانت وزارة الداخلية أعلنت رسمياً فوز الرئيس علي بونغو أونديمبا بنسبة 49,8% من الأصوات في مقابل 48,23% لخصمه زعيم المعارضة جان بينغ في الانتخابات التي جرت في 27 أغسطس/‏آب الماضي.
رفضت المعارضة النتيجة، واتهمت الرئيس بتزوير الانتخابات، مطالبة بإعادة احتساب الأصوات في كل أقلام الاقتراع تحت إشراف مراقبين دوليين. وقد دعمت فرنسا، كما الاتحاد الأوروبي، هذا المطلب، في وقت صدرت فيه مواقف من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وغيرهما تعبر عن «القلق العميق» جراء أعمال العنف، وتطالب «الأحزاب السياسية والمرشحين ومؤيديهم والفاعلين الآخرين بالتزام الهدوء».
ورغم العودة الجزئية للحياة الطبيعية في الغابون تبقى الأزمة مفتوحة وينتظر حلها وساطة دولية، وفرنسية على الأرجح. وهي في جميع الأحوال أزمة تكشف عن طبيعة الأنظمة «الديمقراطية» الإفريقية. فسيناريوهات الانتخابات في إفريقيا الفرانكوفونية متشابهة إلى حد كبير. الزعيم الحاكم غالباً ما يعاد انتخابه في انتخابات غالباً ما تشكك المعارضة في نزاهتها، وفي أغلب الأحيان يفتح الإعلان الرسمي لنتيجة الانتخابات الأبواب أمام أزمة سياسية، ترافقها أعمال عنف. ما يجري اليوم في الغابون لا يخرج عن هذه القاعدة.
المفارقة أن بعض المحللين الدوليين يتكلمون عن تحول ديمقراطي في إفريقيا، فيخلطون ما بين الانتخابات والديمقراطية. وهم يعرفون تماماً بأن الانتخابات لا علاقة لها بالديمقراطية إلا عندما تقود إلى تداول سلمي للسلطة، وشريطة أن يأتي هذا التداول تعبيراً عن رغبة الشعب، وليس قوى أجنبية، أو كولونيالية سابقة مثلاً، في تغيير السلطة القائمة، أو الزعيم، أو الرئيس. وحتى يتمكن الشعب من الحكم على السلطة الحاكمة بالنجاح أو الفشل في التعبير عن تطلعاته، ينبغي أن يتمتع هذا الشعب بالمشاركة السياسية الحقيقية، ليس عن طريق الانتخابات فقط، ولكن أيضاً عبر وسائل ومؤسسات عدة، إعلامية، وحزبية، وأهلية، وسياسية، وغيرها، في ظل دستور عصري.
بعد انتهاء الحرب الباردة، ومعها حروب أهلية كثيرة في القارة الإفريقية، بدأت هذه الأخيرة مسيرتها الصعبة في طريق التحول الديمقراطي. إفريقيا جنوبي الصحراء التي ظلت لوقت طويل مثالاً يُضرب عن التخلف، عرفت تداولاً سلمياً للسلطة في عدد لا بأس به من بلدانها، كما في بنين مؤخراً، حيث جرت انتخابات رئاسية نزيهة وديمقراطية. أما إفريقيا الوسطى فتبقى عصية على هذا التحول. دولة الغابون مثلاً، لم تعرف تداول السلطة منذ العام 1964 حيث حكمها عمر بونغو حتى وفاته في العام 2009، ليخلفه ابنه علي في انتخابات تم التشكيك في قانونية ترشحه فيها، لكونه نيجيرياً تبناه عمر بونغو، وليس غابونياً في الأصل، كما يفرض الدستور.
أرسى علي بونغو نظاماً سياسياً هجيناً من النوع «الأوتوقراطي التنافسي»، بحسب مخترعي هذا المفهوم، وهما ستيفن ليفتسكي الأستاذ في جامعة هارفارد، ولوكان واي الأستاذ في جامعة تورنتو. ويتميز هذا النظام بوجود مؤسسات ديمقراطية في الشكل تستخدم للوصول إلى السلطة السياسية وممارستها، ولكن الرؤساء يستخدمون هذا النظام بطريقة تجرده من الحد الأدنى من المعايير الديمقراطية.
الفرق واضح ما بين الأوتوقراطية، أو السلطوية، و«الأوتوقراطية التنافسية»، حيث إن هذه الأخيرة تتيح للمعارضة إمكانية اللجوء إلى المؤسسات الديمقراطية لخوض الانتخابات والوصول إلى الحكم. لذلك فالغابون «أوتوقراطية تنافسية»، لأن المعارضة يمكن لها الترشح بحرية للانتخابات، في حين أن بلداناً أخرى في المنطقة، مثل غينيا الاستوائية، تمنع المعارضين من الترشح للانتخابات في أجواء من التزوير والغش التي تجعل من نتائج الانتخابات أمراً معروفاً سلفاً، ويفتقد إلى أي معنى.
الغابون ليست ديمقراطية، لكنها ليست دكتاتورية في الوقت نفسه. هناك تعددية حزبية منذ العام 1990. لكن رغم تشكل معارضة حقيقية منذ العام 2000 فإنها، ومعها المجتمع المدني، بقيت ضعيفة ومشتتة فعجزت عن منع انتخاب علي بونغو في العام 2009 بسبب اعتماده على الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم الذي يمتلك آلة انتخابية قوية ونافذة. واللجنة الوطنية الدائمة الضامنة لنزاهة الانتخابات يرعاها وزير الداخلية، وهو عضو في هذا الحزب الحاكم، وتعينها المحكمة الدستورية التي يعينها رئيس الجمهورية نفسه (بموجب المادة 89 من الدستور الغابوني) فيغدو في الانتخابات حكماً وطرفاً في الوقت نفسه.
لائحة الأمثلة تطول حول النصوص التي تحكم النظام السياسي في الغابون، وغيرها من الدول الإفريقية التي تتعارض بوضوح مع الديمقراطية الحقيقية، وتفتح المجال أمام الأزمات السياسية قبل كل انتخابات، وبعدها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"