أزمة سلطة وتداولها في فرنسا

02:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
نتائج الانتخابات في المناطق والمحافظات الفرنسية، في الشهر المنصرم، جاءت لتؤكد مجدداً وجود أزمة حقيقية تعصف بالنظام السياسي الفرنسي . إنها أزمة سلطة سياسية عاجزة عن إيجاد الحلول للمشكلات التي تعانيها فرنسا على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأزمة تداول للسلطة ما بين الوجوه المعروفة نفسها . فالنظام بات عاجزاً عن استيلاد وجوه جديدة وخطابات سياسية مختلفة وبرامج خلاقة . هناك 3 .5 مليون فرنسي يتلقون معونات غذائية من الدولة، ونصف الفرنسيين لا يتوجهون إلى صناديق الاقتراع، وعندما يفعلون فإن واحداً من ثمانية يصوّت للجبهة الوطنية المتطرفة أو يضع ورقة بيضاء أو لاغية، وسبعاً من عشرة لا يؤمنون بديمقراطية نظامهم السياسي .
كما كان متوقعاً تلقى الحزب الاشتراكي الحاكم هزيمة ماحقة في هذه الانتخابات، هي الرابعة في عام واحد بعد الانتخابات البلدية والأوروبية والسيناتورية . هذه المرة خسر حوالي نصف المناطق التي كان يديرها منذ عام 2011 (34 من أصل 61) ومنها محافظات تسمى - حصون الحزب - كونه يتزعمها منذ عشرات السنين . والأهم أن رئيس الجمهورية نفسه خسر منطقته (كوريز) ورئيس الوزراء ايمانويل فالس خسر معقله (ايسون) كما وزير الخارجية فابيوس (سين البحرية) إضافة إلى وزراء آخرين في الحكومة . فالس تلقى هذه الهزيمة في الذكرى السنوية الأولى لتعيينه رئيساً للوزراء خلفاً لجان-جاك ايرلوت الذي عوقب على خسارته الانتخابات البلدية والاوروبية . وإذا أضفنا إلى هذه الهزائم المتتالية أرقام استطلاعات الرأي التي تشير إلى تدني شعبية رئيسي الجمهورية والوزراء إلى مستويات قياسية، يحق لنا أن نتساءل عن معنى الديمقراطية في بلد عريق كفرنسا .
فاز تحالف حزب ساركوزي مع الوسط، لكن الجبهة الوطنية المتطرفة لم تخسر إذ إنها كرست انتصاراتها الانتخابية السابقة وباتت تحتل الموقع الثالث في المشهد الحزبي، ما يعني صعوبة تجاوزها في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2017 والتي بدأ الجميع بالاستعداد لها . هذه الانتخابات قد تحمل تغييراً جذرياً دائماً في المشهد السياسي الفرنسي، على ما حذّر فالس .
لقد نجحت استراتيجية وزير الخارجية السابق ألان جوبيه القاضية بالتحالف مع الوسط وتفادي اليمين المتطرف، رغم أن رئيس الحزب ساركوزي وضع هذا الانتصار في حسابه الشخصي معلناً أن التغيير آت لا محالة . وهو يحلم بالانتقام من هولاند الذي أخرجه من الإليزيه في انتخابات عام 2102 . لكنه يعاني انقسام الحزب اليميني بين مؤيد ومعارض لترشحه في الانتخابات الرئاسية بعد كل الهزائم والانتقادات وهبوط الشعبية خلال فترة حكمه بين عامي 2007 و2012 والتي بسببها خسر الانتخابات أمام هولاند .
يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه أو تتشابه حلقاته تشابهاً لافتاً . فهولاند فاز بترشيح الحزب الاشتراكي له في وجه ساركوزي عام 2011 بفضل فوز الحزب في انتخابات المحافظات والمناطق وهو فوز وضعه رئيس الحزب هولاند وقتها في رصيده الشخصي داعياً إلى رص الصفوف حوله وتجاوز الخلافات أمام الخصم اليميني الحاكم . واليوم بعد أربع سنوات يحقق حزب ساركوزي فوزاً ساحقاً في هذه الانتخابات نفسها، فيضع ساركوزي الفوز في رصيده الشخصي ويدعو حزبه إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات الداخلية تمهيداً للمعركة الرئاسية المقبلة .
الدنيا دولاب، كذلك السياسة . في عام 2011 وصلت شعبية الرئيس ساركوزي إلى الحضيض لتشكل رقماً قياسياً في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، ما حدا بأعضاء كثيرين في حزبه إلى التهرب من الدفاع عنه بل والخجل من انتمائهم إليه، في انتخابات عام ،2011 والتي سحقتهم نتيجتها في النهاية . واليوم تكرر الأمر نفسه في الجانب الاشتراكي . في عام 2011 كان هولاند يوزع الابتسامات والوعود ب "التغيير الآن" (شعار حملته الانتخابية) في حين كان مرشحو اليمين يحاولون ترميم ما يمكن . واليوم تبدو الصورة نفسها ولكن في الاتجاه المعكس .
وإذا كان ساركوزي يحلم بالانتقام من هولاند فإن هذا الأخير يفضّل مواجهة هذا الخصم نفسه الذي يعرف نقاط ضعفه والتي منها نفذ إلى الاليزيه في عام 2012 . والرجلان يشتركان في صفة الفشل في تجربتيهما الرئاسية . ثم إن ساركوزي من النوع الذي لا يتردد في مغازلة اليمين المتطرف طمعاً في أصواته، ولو على حساب المبادىء الجمهورية . وقد بدأ بذلك بالفعل منذ اللحظة عبر الإعلان، عن طريق أحد نوابه، بأنه ضد القانون الذي يحظر تقديم لحم الخنزير في المدارس الداخلية الفرنسية (مراعاة للجاليات المسلمة) . في المقابل يتمسك خصوم ساركوزي اليمينيين، مثل الكاريزماتي - العاقل - جوبيه الذي يلمع نجمه في هذه الأيام، أو فرانسوا كوبيه زعيم الحزب السابق، أو فرانسوا فيلون رئيس الوزراء الأسبق . . الخ . بهذه المبادئ ويتفادون التقارب مع الجبهة الوطنية المتطرفة . لذلك فإن المرشح ساركوزي هو أفضل من يتسبب برص صفوف اليسار والوسط وربما بعض اليمين المعتدل خلف معسكر الرافضين لأطروحات اليمين الشوفيني، بزعامة الرئيس المرشح هولاند .
منذ اللحظة بدأت الحملة الانتخابية الرئاسية . في الحزب الاشتراكي دعوات إلى إعادة تأسيس الحزب والانطلاق من الصفر، وربما تحويله إلى حزب - اجتماعي ديمقراطي - على غرار أحزاب أوروبية كثيرة . ومن جهة اليمين هناك اتفاق على تغيير اسم الحزب كي يتمكن من خوض الانتخابات متخففاً من أعباء الاخفاقات الماضية . ومن جهتها فإن الجبهة الوطنية المتطرفة تستعد لأن تكسب الانتخابات مستفيدة من اخفاقات الخصوم وخلافاتهم المتراكمة، وأن تكون في أسوأ الأحوال بيضة القبان في هذه الانتخابات .


د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"