أسئلة التحولات ومنظومة القيم

04:12 صباحا
قراءة 5 دقائق

في ركن هادئ على الشاطئ الشرقي الإماراتي، التقت نخبة مثقفة، على مدى يومين، لإعمال الفكر في منظومة القيم في مجتمعنا، مستخدمة أسلوب العصف الذهني لتوليد الأفكار وتطويرها، ومنطلقة من التغيرات الجذرية، التي شملت أنماط الاقتصاد والثقافة والإنتاج والعيش، وطرز الحياة والسلوك والاجتماع الإنساني .

وقد أفرزت هذه التحولات العاصفة، ذات الجرعة العالية، أعراضاً جانبية سلبية غير محسوبة، طالت أنساق القيم في المجتمع، وأثَّرت في خيارات الإنسان وقراراته وسلوكه وأسلوب تفكيره .

تغيرت نوعية الحياة، وبناء النظم الاجتماعية، ومستويات التعليم والصحة والرفاه، وارتقت قيم وتراجعت قيم أخرى .

وفي بطن هذه القيم، تحولت مؤشرات عديدة ذات صلة بالسلوك والاتجاهات والسمات والاهتمامات والحاجات، وبمعايير الذوق والجمال والمعايير .

لا خلاف في أن هزَّة عميقة حدثت في منظومة القيم، وفي ترتيب القيم في هذه المنظومة، هي مجموعة القيم المترابطة التي يتبناها الفرد المواطن، وتحكم سلوكه وتنظم علاقاته بالأشياء المادية وغير المادية من حوله، وعلاقاته مع نفسه ومع الآخرين، وبينه وبين الواقع، نظماً ومؤسسات .

وعادة ما تتسم منظومة القيم في أي مجتمع بالديناميكية، والتفاعل بين أجزائها، وتتأثر بمعارف الفرد وخبراته، وبإطاره الاجتماعي الذي يعيش فيه .

وتتغير بعض القيم، مع نمو الإنسان، وفي ظل تغيرات العمل والمحيط والفلسفة العامة السائدة في المجتمع وثقافته، ويعيد ترتيب هذه القيم، حسب أهميتها بالنسبة للفرد، وتشكل منظومة القيم مكوناً أساسياً في الهوية الوطنية، وتعكس الفلسفة العامة، ونوعية الحياة، وتؤثر في مسيرة التطور، ويستمد المجتمع منها التوجيه والإرشاد .

وللقيم درجة ثبات نسبي، بعكس الاتجاهات التي هي أكثر قابلية للتغير، وقد ثُبّتت قيمة ضبط النفس في المجتمع الهندي لأكثر من ستة عقود، وظلت في مقدمة منظومة القيم الهندية، على عكس ما هو موجود في المجتمع الأمريكي حيث تقف قيمة الحرية على رأس منظومة القيم الأمريكية .

* * *

من السهل القول، إن لدينا منظومة قيم موروثة، كالقيم العامة الدينية والاجتماعية والأخلاقية والأسرية، وإنها ما زالت راسخة، على الأقل، لدى الجيل الذي تجاوز الخمسين، لكن هذا الجيل الذي يعيش اليوم على ذكرياته، ليس مقياساً يحتكم إليه لقياس منظومة القيم الراهنة، لأنه تربى في زمن آخر، ورضع حليباً آخر، أما المطلوب معرفته وقياسه، بعيداً عن التخمينات، فهو منظومة قيم الأجيال الناشئة، وما تليها من أجيال متصلة، تجلس الآن على مقاعد الدراسة .

ومن أسف، فإنه في غياب الدراسات الميدانية العلمية الرهينة لموضوع منظومة القيم، فإن التخمين هو سيد الموقف، وفي هذا تبسيط واختزال .

إن قياس منظومة القيم في المجتمع، ليس أمراً سهلاً، لكن تجاهل معرفتها الحقيقية، وفهمها الصحيح يشكلان كارثة على مستويات عدة، وستكون أية برامج تطوير وتنمية وتربية وثقافة، قاصرة، إذا وضعت من غير معرفة حقيقية بمنظومة القيم السائدة في المجتمع، حيث تفيد هذه المعرفة العلمية، في مجال الارتقاء بهذه المنظومة، ومعالجة ما فيها من سلبيات، وإعادة ترتيبها وفقاً للمرغوب أو الناجع، الذي ننشده في المستقبل .

ليس المطلوب للارتقاء بالقيم، المواعظ المتكررة، ولا خطابات العلاقات العامة، في الوقت الذي لا ندرك فيه علمياً طبيعة القيم المستحدثة . لقد اقتحمنا الحداثة، وحرقنا المراحل على مستويات عدة، وللحداثة كما هو معروف استحقاقاتها، خصوصاً اذا ما كانت ليست مجرد رغوة طافية، بل هي رؤية وسياق متصل ومرجعيات، وتجري في ظل إضاءة خاطفة للأبصار، تهز التوازن الإنساني والاجتماعي أحياناً، وتفعل فعلها في المنظومات القيمية وترتيباتها .

لا يمكن القول إن منظومة القيم هي مجرد مواريث الماضي، وإنما هي حصيلة مكتسبات أيضاً، لكن المهم هو كيف يتآلفان في تأسيس منظومة جديدة للقيم، تؤسس للهوية الوطنية الجامعة والمعافاة، بعيداً عن التنابذ والتصادم، اللذين يولدان هوية ممزقة .

* * *

لو سألنا أنفسنا: ما المرغوب فيه من منظومة للقيم في مجتمعنا، ومرتبة ترتيباً هرمياً وحسب أهميتها للفرد أو المجتمع؟

وقد حاولت الإجابة عن هذا التساؤل، من خلال قراءة معمقة وتحليلية لوثيقتين رسميتين، الأولى هي استراتيجية الحكومة 2011-،2013 والثانية هي رؤية الإمارات: 2021 متحدون في الطموح والعزيمة . واستنبطت منهما منظومة طويلة من القيم، وردت حرفياً في معظم الأحيان، مثل: قيم التميز والإنجاز والأسرة والعدل والعمل والمسؤولية الاجتماعية والتعلم الذاتي والابتكار، والاعتدال الديني، وقيادة الأعمال، والاعتزاز الوطني، وتمكين المرأة، إضافة إلى قيم معنوية وأخلاقية ومعرفية .

ولم أهتد للوصول إلى قيم أخرى غائبة، مثل القيم الجمالية (الذائقة الفنية) وقيم السعادة والترويح، وهي قيم عصرية، وقيم التعاون وروح الفريق لتحقيق الإنجاز بدلاً من التنافس، فضلاً عن قيم أخرى مثل ثقافة احترام القانون، وتعزيز مبادئ المشاركة، والانخراط الإرادي التطوعي لبناء رأسمال إنساني .

كما لم أهتد للوصول إلى وضع ترتيب هرمي لهذه القيم، حسب أهميتها، حتى تستطيع مؤسسات التنشئة تسليط الضوء عليها .

وقد أقلقني في المرحلة الأخيرة، تدني قيم الذائقة الفنية لدى الأجيال الجديدة، رغم كل هذا الغنى والتنوع والزخم في النشاط الثقافي والفني، وحرص الدولة على إنفاق الملايين لاستضافة أرقى فنون العالم، من فنون الموسيقا والأوبرا والسيمفوني والفولكلور الشعبي وأبرز أعمال النحت والسينما والمسرح والرسم وموروثات شعوب الأرض .

لماذا ما زالت حساسية التذوق الفني سلبية؟ هل يعود الأمر لقصور في التربويات والتعليم؟ هل هو في غياب الأنشطة اللاصفية في المناهج المدرسية؟

أم أن هذه الأنشطة الوافدة، تبقى في فضاءات مغلقة، ولا تصل إلى الفئات المستهدفة، وفي أماكنها، وجامعاتها ومدارسها ومدنها النائية؟

إن هذه الأنشطة والفعاليات الفنية ليست ترفاً أو تسلية لجاليات أجنبية، وإنما بهدف الارتقاء بالذائقة الفنية في المجتمع، ومواجهة التصحر الثقافي والروحي الذي تسببت فيه قيم الاستهلاك الشره، وحتى لا تشح المشاعر وتتصحر الضمائر والوجدان، فضلاً عن توسيع خيارات التذوق والمعرفة .

أسئلة كثيرة أكتفي منها بسؤال حول، دور المؤسسات التقليدية التي تسهم في تشكيل نسق القيم، وأقصد بذلك دور الأسرة والمدرسة والإعلام والمؤسسات الاجتماعية والمجتمعية .

إن كل هذه المؤسسات تمارس تأثيرات متفاوتة في أفراد المجتمع، وتصوغ قيمهم، وتعيد إنتاج وعيهم وسلوكهم، وتلعب أدواراً حساسة في تشكيل الشخصية الجماعية .

لقد أدت هذه المؤسسات التقليدية أدوارها في سياق زمني مضى، حينما كانت حدود الوطن والثقافة والاتصال مغلقة نسبياً، إلا أن هذه الأدوار، تراجعت في ظل متغيرات جارفة عصفت بالمجتمع، وتحولات جذرية، لم يكن إيقاعها بطيئاً، وطال كل مجتمعات دول الخليج العربية .

الوسائط الإعلامية التهمت الثقافة، وانشغلت الأسرة في شجونها الخارجية، وتراجعت قيمة المعلم في المخيال الجمعي، وتدنت قيمته المجتمعية ودوره، وسادت هواجس التملك والمال، وافترست هواجس السعادة، وأفرغت ثقافة الاستهلاك الإنسان من مضمونه الآدمي، إلى غير ذلك من التأثيرات .

صحيح، أنه ما زال لهذه المؤسسات التقليدية، قدرات رمزية لاستيعاب المتغيرات، وتحرير وعي الناشئة من سطوة طوفان القيم السلبية، إلا أن المتغير الجديد، صاحب السلطان، والذي دخل في حلبة منافسة مع هذه المؤسسات، هو العولمة الثقافية، وإفرازات ثورة الاتصال الفضائي، وعصر الصورة الزاحفة عبر الفضاء المفتوح، الحاملة لمضامين قيمية جديدة .

لم يعد سلطان الأسرة التربوي، ولا سلطان المعلم التعليمي، ولا سلطان الإعلام الرسمي، ولا سلطان خطيب المسجد، ولا جاذبية الكتاب . . . إلخ، يضارع في الأثر والنفاذ سلطان الصورة .

إن الساعات التي ينفقها الآباء في تربية الأبناء أو التي ينفقها المعلم، هي دون ساعات المشاهدة التلفزيونية، والرسائل الإلكترونية التي نابت عن اللقاء والمصافحة، وأحدثت انقلابات في العلاقات الإنسانية وأنماط التفكير والسلوك .

في المحصلة، نحن بحاجة إلى تعامل جدّي ومنهجي مع هذا الشجن القيمي، لنبحث علمياً في القيم التي توطنت في النسيج المجتمعي، وندرس ونستوعب ونتماسك أمام أسئلة البقاء، ولا نتحجر وننكفئ، ولا نفقد الثقة بقيم إيجابية ارتبطت بالحداثة وبالتحولات، كقيم العمل واحترام الوقت والقانون والآخر المغاير والانضباط وواجبات المواطنة والتعاون والمسؤولية الاجتماعية، والقيم العلمية، ومواجهة قيم المظهرية والاستهلاك البذخي والعقل المغلق، وغيرها .

التخمين لا يصلح مفتاحاً لأقفال منظومة القيم، ولا مدخلاً لاستقراء المزاج النفسي . الدراسات الميدانية العلمية الصارمة والمتراكمة والمقارنة هي المدخل والمفتاح .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"