أمة تستعيد روحها وأخرى تفقدها

04:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

كيف تستطيع الجارة المسلمة تركيا أن تقف مواقف الغضب أو الاحتجاج أو الممانعة أو التلاسن أو تبريد وإبطاء العلاقات مع الكيان الصهيوني وتعجز عن فعل أي من ذلك هذه الدولة العربية الكبرى أو تلك الدولة العربية الصغرى؟ ولن نذكر السلطة الفلسطينية في كوميديا مأساة هذه المقارنة، فوضعها يستعصي على أية مقارنة.

إن مواقف الكبرياء والشهامة والمروءة والتعاطف الإنساني التركية ومواقف الذل وقلة الحيلة المطلقة العربية تقف أمام المشهد ذاته. إن مشهد دمار غزة البربري وولولة نسائها أمام بيوتهن المهدمة المحروقة وعيون أطفالها الزائغة المتوسلة الحائرة الحزينة وهوانها على نفسها وهي تصارع عدو العرب والمسلمين الصهيوني، وشح نخوة وغيرة اخوان أهلها العرب هو نفس المشهد، وآهات وأوجاع المسرحية الشيطانية هي نفس الآهات والأوجاع، فلماذا تستطيع المشاهد نفسها والأحزان نفسها أن تثير في تركيا، وعلى الأخص في قيادتها السياسية، ما تعجز بصورة مفجعة عن إثارته في الأرض العربية، وعلى الأخص في قياداتها السياسية؟

لا تستطيع الفروق بين رئيس حكومة مثقف، ملتزم بقضايا أمته الإسلامية، مرفوع الرأس بندية وعزة أمام الآخرين، محترم لمشاعر شعبه الإسلامية العميقة، حاسب ألف حساب لمحاسبة شعبه له ولحزبه الحاكم في الانتخابات الحرة القادمة، وبين مسؤول آخر يحكم بلا شرعية دستورية، لا يخشى غضب شعبه. لا تستطيع تلك الفروق أن تفسر ظاهرتي القدرة والعجز اللتين نراهما أمامنا.

لا يستطيع تفوق قوة الالتزام بأخوة الإسلام، الذي تمارسه دولة، على ضعف وعجز الالتزام بأخوتين، أخوة الاسلام وأخوة العروبة، الذي تمارسه دولة أخرى

أن يشفي غليلنا في شرح ظاهرة تفقأ العينين.

أبداً، لن تستطيع مثل هذه الأسباب الفرعية أن تفسر لنا ما نراه. ولابد للأسباب الحقيقية أن تقبع في مكان آخر، في ساحات أرحب وأهم. في اعتقادي أنها تقبع في ساحة روح المجتمعين التركي والعربي.

الشعب التركي فقد روحه عبر العديد من العقود ليستعيد مؤخراً وعيه ويدرك أن استعادة روحه التي تاهت تكمن في جذوره العقيدية وفي المسؤوليات التي يمليها عليه تاريخه وفي تأكيد استقلالية ذاته السياسية والثقافية وفي ايمانه بقدراته وامكاناته وفي توسيع آفاق مستقبله. ويقابل ذلك ما حل بالشعب العربي الذي يعيش فترة التيهان والضياع وعدم التوازن.

الشعب العربي تضعف حيوية روحه يوماً بعد يوم بسبب تخليه عن هويته العروبية القومية لحساب هوياته الفرعية من قطرية محلية وقبلية ومذهبية، وبسبب قبول اقناعه بأن حل مشاكله الكبرى تمسكه القوى الخارجية، وبسبب شعوره بالدونية أمام الآخر، وبسبب السماح لثروة

مؤقتة ناضبة أن تدخله في جحيم الاستهلاك النهم من دون الانتاج الضروري لوهج الحياة.

والنتيجة أن استعادة الروح في الشعب التركي قادت إلى أن تحكمه قيادة مسؤولة شجاعة مستنيرة تحترم رغباته وأحلامه وانحيازاته، بينما قاد هزال وتشوه روح الشعب العربي إلى أن تحكمه قيادات تخاف حمل المسؤولية، وتنأى بنفسها عن الاعتماد عليه، بل تقمع كل ما فيه من حيوية وامكانات باسم الأمن والسلم الاجتماعي وغيرهما من شعارات الاستكانة والعيش على هامش الحياة.

نحن أمام روحين مختلفين، أمام فترة تاريخ صاعد وفترة تاريخ هابط، أمام حيوية وتدفق في جانب وخمول واتكالية في جانب آخر، من هنا الاختلاف الهائل في التعامل مع الكيان الصهيوني. ذلك أن القيادة التي يحملها تاريخ صاعد وتحاسبها حيوية وتدفقات مجتمع استعاد وعيه تستطيع ممارسة الفعل. أما القيادة التي يشل ارادتها تاريخ ينزلق ويهبط ولا يحاسبها غياب الحيوية والكبرياء في مجتمعها، فإنها ستمارس الأقوال، لأن وهج الفعل يعمي بصرها وبصيرتها. ويل لأمة تسمح بكل ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"