أمريكا التي تفقد رصانتها

02:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أبانت أزمة انتشار فيروس «كورونا» على المستوى العالمي، حقيقة النسق الذي تقوم عليه العلاقات الدولية، وأفصحت عن واقع التحالفات بين الدول؛ حيث لجأت بعض الدول كإجراء احترازي إلى غلق حدودها وإلى منع تصدير المستلزمات الطبية نحو دول أخرى تقيم معها تحالفات وثيقة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، كما حدث على سبيل المثال داخل الاتحاد الأوروبي عندما لجأت بعض الدول الأعضاء إلى التخلي عن واجبات التضامن مع جيرانها، لكن الإجراء الذي كان له وقع الصدمة الكبرى على مستوى القارة الأوروبية تمثل في إعلان الرئيس الأمريكي تعليق كل الرحلات الجوية بين بلاده وأوروبا لمدة 30 يوماً بداية من يوم الجمعة 13 مارس/آذار الماضي.
وقد تزامن الإجراء الأمريكي الذي أثار استياء الاتحاد الأوروبي الذي حذر من تداعياته الاقتصادية، مع إعلان منظمة الصحة العالمية يوم الأربعاء 11 مارس/آذار عن تحول فيروس «كورونا» إلى وباء عالمي، وهو الأمر الذي بات يتطلب بحسب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تنسيقاً وتضامناً دولياً وتعاوناً واسعاً من أجل احتوائه والتغلب عليه وليس اللجوء إلى التمسك بالإجراءات الانعزالية التي لن تكون مفيدة بعد أن تفشى الوباء في الأغلبية الساحقة من دول العالم، وأصابت عدواه مسؤولين ووزراء في دول كبرى. وذهبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في هذا السياق، إلى حد التصريح، أن هذا الفيروس المستجد سيصيب ما بين 60 إلى 70 في المئة من السكان الألمان، الأمر الذي يؤكد خطورة الوباء وعبثية محاولة مواجهته من خلال اتخاذ إجراءات أحادية الجانب؛ وقد رفض في الآن عينه وزراء في حكومة المستشارة ميركل محاولة ترامب، غير المشروعة، شراء مشروع لقاح يعده علماء ألمان.
وجاء قرار ترامب المتعلق بوقف الرحلات مع أوروبا الحليف التاريخي لبلاده، في سياق جدل إعلامي أمريكي تم فيه الحديث عن غلق التراب الأمريكي في وجه «الأجانب» القادمين من أوروبا بسبب وباء «كورونا» الذي يواصل تفشيه في بلاد العم سام بوتيرة مرشحة للارتفاع، نتيجة تعامل واشنطن مع الوباء بنوع من الاستخفاف في الأسابيع الماضية، قبل أن يعلن ترامب حالة الطوارئ وتخصيص 50 مليار دولار لمواجهة الفيروس.
كما وصف الرئيس الأمريكي ترامب في السياق نفسه في كلمته التي ألقاها يوم الأربعاء 11 مارس/آذار، فيروس «كورونا» الذي بدأ في الانتشار على نطاق واسع، لاسيما في القارة الأوروبية، بأنه فيروس «أجنبي» وكأن الفيروسات أصبحت لها أوطان وجنسيات في عرفه، وأثار أيضاً وزير خارجيته مايك بومبيو، موجة من الاستهجان عندما تحدث عما أسماه «فيروس يوهان» في إشارة إلى المقاطعة الصينية التي انطلق منها الوباء، وذلك تزامناً مع حديث مسؤولين آخرين عن «الفيروس الصيني»، وهو ما دفع وكالة أنباء الصين إلى القول إن «بعض الساسة الأمريكيين يستخدمون فيروس «كورونا» كسلاح لتشويه الصين»، كما اتهمت الوكالة، مستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجية بنشر «فيروس سياسي».
وكان مسؤول كبير في إدارة الصحة الأمريكية، روبرت ريدفيلد، قال إن الخطر الأكبر لتفشي الوباء في أمريكا يأتي الآن من أوروبا «إذ منها تأتي حالات الإصابة، ولكي نقول الأشياء بكل وضوح، فإن أوروبا هي بمثابة الصين الجديدة». واعتبر قسم كبير من الإعلام الأوروبي، أن وصف القارة الأوروبية بالصين الجديدة من قبل مسؤولين كبار، يفضح النزعة العنصرية لشخصيات أمريكية مرموقة تجاه أوروبا والعالم.
ويشير المتابعون في سياق متصل إلى أن استثناء ترامب في بداية الأمر لبريطانيا من إجراء منع دخول الأراضي الأمريكية لمواطني أوروبا، حمل دلالة سياسية واضحة، وبخاصة أنه جاء في مرحلة تجري فيها لندن مفاوضات مكثفة مع بروكسل من أجل إتمام إجراءات البريكست الذي كان ترامب قد عبّر عن تأييده له.
ويمكننا أن نخلص في الأخير إلى أن مسارعة الصين إلى تقديم مساعدتها لأوروبا ولإيطاليا بشكل خاص على الرغم من الصعوبات التي تواجهها، والذي تزامن مع قيام أمريكا بغلق أجوائها في وجه الرعايا الأوروبيين، ستكون له انعكاسات سياسية ملموسة على مشهد التحالفات الدولية مستقبلاً، ومن غير المستبعد أن تتجه دول أوروبية مثل إيطاليا وفرنسا إلى القيام بإعادة تقييم جدي لعلاقاتها مع المحور الأنجلو- أمريكي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"