أوروبا تقف عند منعطف يوناني خطر

01:11 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .غسان العزي
يشكل انتخاب الكسيس تسيبراس زعيم حزب "سيريزا" اليساري الراديكالي منعطفاً في أوروبا ومصدر قلق للأوروبيين، ليس لأن هذا الأربعيني يشهر إلحاده وكونه عازباً لديه أولاد لم يتعمدوا في الكنيسة، أو لأنه لم يقسم اليمين الدستورية على الكتاب المقدس، بل على الدستور ومن دون ارتداء ربطة عنق، بل لأن هذا الشعبوي الذي حصد 36 في المئة من الأصوات وكان ينقصه فقط مقعدان كي يشكل الحكومة بمفرده، وصل إلى السلطة عبر برنامج يرفض كل الاجراءات التقشفية التي فرضتها أوروبا على بلاده لسداد دينها البالغ أكثر من 320 مليار يورو .
وانتخابه ناتج عن حقيقة أنه بعد سنوات من التقشف المفروض أوروبياً لم يتعاف الاقتصاد اليوناني، بل على العكس . فالنظام الصحي بات منهاراً والفقر يضرب نصف السكان والبطالة تخطت نسبة 25 في المئة، والوصاية المفروضة من الترويكا (المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) لم تزد المرض إلا تفاقماً، كذلك الدين العام الذي هدفت الإجراءات التقشفية إلى الحد منه .
لقد فاز تسيبراس لأن الشعب اليوناني يشعر بالمهانة من هذه الترويكا التي يعتبرها "قوة احتلال حقيقية" تدفع على الدوام نحو خفض الإنفاق المالي وتسريح الموظفين، وهي "ليس لها وضع مؤسساتي قانوني على المستوى الأوروبي" لذلك يرفض تسيبراس التفاوض معها، بل مع الدائنين مباشرة . هؤلاء يقولون إن أوروبا أخطأت عندما وافقت على انضمام اليونان الى اليورو .لكن هذه الأخيرة كانت أول من تمكن من تحقيق شروط مثل هذا الانضمام، في عام ،2000 وقبل فرنسا نفسها . والديمقراطية الأثينية كانت منذ 2500 عام، قبل أن يتعرف الأوروبيون إلى الديمقراطية منذ القرن التاسع عشر .
لقد أخطأ الأوروبيون ليس في قبول اليونان، بل في فرض شروط قاسية عليها ظناً منهم بأنها تؤدي الى تعافي الاقتصاد وتمكن الخزينة من الخروج من العجز وبالتالي سداد ديونها . وقد أعلن تسيبراس خلال حملته الانتخابية أن أوروبا ليست ديناً نقدس نصوصه الإلهية، وليست قدراً لا انفكاك منه لكن يمكن البقاء فيها شريطة التفاوض بحثاً عن حلول غير تلك المفروضة من الترويكا . والتفاوض لا يعني أن ثمة حلولاً جاهزة،فالاقتصاديون ومنهم حملة جائزة نوبل يجمعون على أنه لا وجود لوصفات سحرية أو معجزات يمكن الركون اليها لشفاء الاقتصاد، ومنها وصفة التقشف التي أثبتت التجربة فشلها .
تسيبراس، ومعه الأوروبيون، يعرفون أن ثمة طبقة مالية أوليغارشية في اليونان وغيرها تكسب الملايين وتتهرب من دفع الضرائب ،حولت الدولة الى رهينة لها ولم تجرؤ الحكومات المتعاقبة على المساس بها . وبالتالي ينبغي اعادة توزيع الثروة بين الطبقات،وهو توزيع يمر بالتفاوض والاقناع، ولكن بالإكراه أيضاً . وهذا الكلام يخيف الحكام في أوروبا لا سيما وأن تسيبراس يعتبر "إن أوروبا في أزمة وليس اليونان وحدها وبالتالي عليها اتخاذ قرارات شجاعة من أجل النمو" ويدعو بوضوح إلى "إصلاحات تعيد بناء اقتصاد اجتماعي في إطار أوروبا تقدمية" وهذا ما يذهب في عكس تيار النيوليبرالية الجارف في هذه الأيام .
وقد سارعت الحكومة اليونانية الجديدة إلى إطلاق سلسلة من الإصلاحات والاجراءات ضد التقشف، ومنها مثلاً وقف مسار خصخصة البنى التحتية واعادة موظفين إلى الخدمة بعدما أمرت الترويكا بتسريحهم . لذلك سارع رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولز إلى أثينا للقاء رئيس وزرائها الجديد ليخرج من اللقاء بالإعلان أن المفاوضات بدأت ولكن ليس على قاعدة إلغاء الدين كما تطالب أثينا . بدوره أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود جانكر، في مقابلة مع جريدة لوفيغارو، عن "احترام الأوروبيين لنتيجة الاقتراع العام في اليونان، لكن على هذه الأخيرة أن تحترم بدورها الآخرين من برلمانيين ورأي عام في بقية أوروبا" مؤكداً في الوقت نفسه أن "لا مجال البتة لإلغاء الدين اليوناني"، بل يمكن الاتفاق على بعض الإجراءات التخفيفية . وهذا ما أكده أيضاً وزير المالية الفرنسي ميشال سابان الذي اعتبر أن الغاء هذا الدين يعني تحويله إلى كاهل دافعي الضرائب الفرنسيين والأوروبيين، وهذا غير مقبول .
وباختصار، فبالنسبة للأوروبيين أن تداول السلطة في أثينا والتغييرات المفروضة بعد وصول حزب سيريزا إليها لا ينبغي أن تكون على حسابهم،على ما قاله وزير الاقتصاد الألماني سيغمار غابرييل . و"أوروبا لن تغير كل شيء لإرضاء اليونان" على ما أعلن رئيس المفوضية الأوروبية يونكر . ومن الواضح أن دولاً كثيرة في أوروبا ترفض تقديم الهدايا لليونان، منها فنلندا ودول البلطيق وهولندا وألمانيا التي تتمسك بسياسة التقشف المالي . كما تعارض ذلك البرتغال وإسبانيا اللتان تعانيان أزمة اقتصادية حادة واللتان بذلتا جهوداً مضنية لتلبية مطالب دائنيهما . وقبرص هي الأخرى تخضع للترويكا كما اليونان . أما فرنسا التي يناهض رئيسها الاشتراكي هولاند سياسة التقشف فهي تعاني أزمة مالية وليست في موقع من يقدم المساعدات .
من خارج أوروبا هناك من يدعم اليونان كالرئيس أوباما الذي نصح الأوروبيين بتلبية مطالبها . لكن، وهنا المفارقة فإن الصين الشيوعية تشعر بالقلق من وقف مسار خصخصة البنى التحتية لاسيما في مرفأ بيريه اليوناني حيث يتواجد بقوة العملاق الصيني في مجال النقل البحري "غوكسو" .
لقد انطلقت المفاوضات والرحلات المكوكية بين أثينا والعواصم الأوروبية، وعليها يتوقف مصير أوروبا وربما وجودها . ولا مبالغة في هذا القول، بل إن وزير الخزانة البريطاني جورج أوزون صرح قائلاً إن "الخلافات بين منطقة اليورو واليونان تمثل أكبر تهديد للاقتصاد العالمي وهو تهديد متنام لبريطانيا"، ولأوروبا التي تقف اليوم أمام مفترق شديد الخطورة .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"