أولويات متضاربة

02:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

من جديد الأراضي المحتلة: تستعد سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» لإقامة حي استيطاني في قلب مدينة الخليل المحتلة، بهدف ربط الأحياء الاستيطانية في المدينة بمستوطنة كريات أربع، وهي المستوطنة الشهيرة التي انطلق منها المستوطن باروخ جولدشتاين خلال شهر رمضان العام 1994 نحو المسجد الإبراهيمي في المدينة، حيث أطلق رشاشه الأوتوماتيكي على مُصلّي الفجر في المسجد، وأودى بحياة العشرات منهم وجرح عدداً آخر. ومنذ ذلك التاريخ، وبداعي الفصل بين المستوطنين اليهود وأبناء الخليل، تمت السيطرة على أسواق في قلب المدينة، وإغلاق شوارع رئيسية، وهو ما أدى إلى إغلاق مئات المحال التجارية. الآن يزداد التوسع في المصادرة وشق الطرق من أجل تمزيق النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمدينة، ومنْح الغزاة المستوطنين مواطن أقدام جديدة في قلب المدينة العربية التاريخية. وقد تجندت بلدية المدينة مع هيئاتها الاجتماعية لخوض مواجهة سياسية وقانونية، ضد هذا المخطط التوسعي الجديد الذي يمس كيان المدينة وتراثها وحقوق أبنائها.
في هذه الأجواء، يواصل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بث تصريحات حول التوجّه إلى ضم غور الأردن، من الجهة الغربية للنهر (أكثر من مليون دونم وبما يعادل ثلث مساحة الضفة الغربية)، وأنه يواصل بذل المساعي مع الإدارة الأمريكية للاعتراف بهذا الضم، أسوة بالاعتراف بضم القدس وهضبة الجولان السورية إلى دولة الاحتلال. وقد وجد نتنياهو في التحول الأمريكي الأخير، باعتبار المستوطنات «لا تتعارض مع القانون الدولي»، عاملاً ميسراً ومشجعاً لطلب المزيد، وهو الاعتراف بضم أراضٍ واسعةٍ على الحدود مع الأردن، بحيث تصبح هذه الأراضي هي حدود الدولة العبرية. ويحاول نتنياهو بذلك استغلال الفترة المتبقية للإدارة الحالية في واشنطن لانتزاع مزيد من المواقف المؤيدة لشرعنة احتلال الأراضي الفلسطينية.
في هذه الأجواء المتوترة التي يزيد فيها الاحتلال من وطأة كابوسه، شهدت الأراضي الفلسطينية «حدثاً» أثار قدراً هائلاً من الجدل، وذلك بإطلاق أوبريت «ملاك السلام»، بمشاركة أربعة مطربين والعشرات من أفراد مجموعات العزف الموسيقي والكورس، إضافة إلى تأثيث المسرح بعشرات آخرين يمثلون شرائح المجتمع ذكوراً وإناثاً، بعضهم من المسنين. الأوبريت الذي كتبه خالد سكر مدير التلفزيون الرسمي، مخصص للثناء على الرئيس محمود عباس (تظهر صورة له على شاشة تلفزيونية في صدر المسرح) مع نعته بملاك السلام. وهي من المرات النادرة في الحياة الفلسطينية التي يتم فيها تخصيص عمل فني كبير للإشادة بشخص قائد سياسي والتغني بمآثره. الاعتراض الواسع تَمَثَّلَ في العدد الهائل من حالات عدم الإعجاب بالأوبريت على اليوتيوب، مما حَمَلَ من وضعوه على حذفه، ثم تكرر الأمر حين تم وضع الأوبريت على موقع تلفزيون فلسطين، حيث لاقى اعتراضاً شديداً، لأسباب عدة، منها أن هذه المرحلة تتميز بالسعي لانتزاع الحقوق من مغتصبيها ولا تحتمل تمجيد أشخاص أياً كان موقعهم، ومنها أن الشعب الرازح تحت الاحتلال يعاني مُر المعاناة من صنوف التضييق، ولا يملك في هذه الظروف ترف تمجيد مسؤول. علاوة على ما بدا من كلفة عالية لهذا العمل تحملتها السلطة (الوزير المختص لم يبخل علينا، كما قال كاتب الأوبريت)، فيما هي تشكو من أزمة مالية خانقة تنعكس على حياة الناس.
يُذكر هنا أن لقب «ملاك السلام» أطلقه بابا الفاتيكان على الرئيس عباس لدى استقباله له في منتصف مايو 2016 في حاضرة الفاتيكان، ولا شك أن هذا التكريم المعنوي وهذه الشهادة تستحق التقدير والتوثيق. لكن ذلك أمر يختلف عن المبادرة لإنجاز عمل فني ضخم يتخذ من اللقب عنواناً وموضوعاً له. فمرحلة ما قبل الاستقلال لا تتسع إلا لإبراز الكفاح الجماعي للشعب، والتركيز على التعلق بالوطن والتضحية من أجله.
وهكذا نجحت السلطة في إشغال الناس وإثارة الانقسام في صفوفهم، مع ما يؤدي إليه ذلك من تشويش على الأولويات التي تتركز في مجابهة الاحتلال أولاً، ثم معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. هذا فضلاً عن أن هذا العمل الفني أساء إلى صورة الرئاسة، إذ صورها بأنها تسعى إلى تمجيد الذات والتعظيم من شأنها، بدلاً من الإشادة بتضحيات الشعب وبطولاته في وجه احتلال استيطاني يسعى إلى شطب الوجود المادي والسياسي للشعب ونزع الأرض من تحت أقدامه.
رفقاً بمشاعر هذا الشعب، وحذار من محاولات تيئيسه والاستهانة بمعاناته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"