أيامٌ في تونس الخضراء

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق

أتاحت لي ظروف عضويتي في مجلس إدارة النادي الثقافي العربيالذي أسسه المفكر العراقي السفير الدكتور قيس العزاوي، سفير بلاده لدى جامعة الدول العربية، أن أزور منذ أيامٍ قليلة تونس، بداية الربيع العربي ونموذج التقدم الاجتماعي والتطور الثقافي في شمالي إفريقيا العربية، وكنت ضمن وفدٍ برئاسة السفير الدكتور العزاوي ومعنا المفكر والناقد المصري الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، والسفير الدكتور خالد زيادة سفير لبنان في القاهرة، والإعلامي الدولي بالأمم المتحدة محمد الخولي، إضافة إلى الفنان العربي المرموق نصير شمّة، وقد استقبلنا الشيخ راشد الغنوشي في حوار مطول أعقبه غداء حضره معه وزير الخارجية المتزوج بابنة الشيخ، كما التقينا وزير الداخلية على هامش ذلك الاجتماع، وهو رجل قضى ثمانية عشر عاماً في سجنٍ انفرادي في عصر الرئيس بن علي . وفي اليوم التالي استقبلنا رئيس الجمهورية الدكتور منصف المرزوقي في القصر الجمهوري حيث دار بيننا وبينه حوار مطول استكملناه على مائدة الغذاء بدعوة كريمة منه، وبين اجتماعي هاتين الشخصيتين الكبيرتين أتيح لنا أن نرى عدداً من المثقفين والمفكرين من ذلك البلد الشقيق، كما التقينا وزيرة المرأة وهي سيدة مثقفة كانت أحد رموز المعارضة التونسية في باريس . والواقع أن علاقة الدكتور قيس العزاوي مندوب العراق بالمعارضة التونسية في باريس قد أتاحت لنا كثيرًا من التسهيلات في هذه الزيارة، لأنه كان جزءاً من المعارضة العراقية في العاصمة الفرنسية أيضاً، إضافة إلى أنه كان صاحب مكتبةٍ جعل منها صالوناً ثقافياً متوهجاً لأفراد الجالية العربية وأصدقائهم الفرنسيين في عاصمة النور، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن الأوضاع عموماً في تونس أفضل بكثير مما هي عليه في مصر، إذ ليس لديهم مشكلاتنا ولا العبء الواقع على عواتقنا، فضلاً عن أنه لا يمكن مقارنة مشكلة عشرة ملايين بمن يقتربون من الملايين التسعين، أضيف إلى ذلك أن قرب الساحل التونسي من أوروبا وحيازة اللغة الفرنسية لدى معظم السكان، جعلت درجة الانفتاح الفكري والاندماج الثقافي وتفهم روح الغرب ومزاياه أمورًا تعطيهم قوة دفع لم تكن متاحة لمصر على الأقل في العقود الأخيرة، لذلك نلاحظ بسهولة أن مساحة الحريات الشخصية أكبر، وأن حجم التزمت الديني أقل، رغم أن لديهم تياراً إسلامياً متأصلاً يمزج بين الأصولية والحداثة في تشكيلة رائعة أتمناها لوطني القلق فكرياً، المختلف سياسياً، المتراجع ثقافياً!

ثانياً: إن مقابلتنا مع الشيخ راشد الغنوشي قد صححت كثيرًا من المفاهيم لديّ، وأكدت لي أن التزاوج بين ثوابت الإسلام الحنيف وروح العصر أمرٌ ممكن حتى لو اعتنق البعض فكراً سلفياً أو حتى جهادياً، لقد قال لنا الرجل بوضوح إن حركة النهضةالشريك الأساسي في الترويكاالحاكمة قد قبلت بالقانون الذي فرضه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة منذ عدة عقود والذي يقضي بمنع تعدد الزوجات، وأضاف الرجل أنه يسعى إلى حماية الدين من السياسة، مؤكدًا أنه لا تعارض بين العقل والمصلحة العامة في جانب وتعاليم الدين ونواهيه في جانب آخر، كما أيد بوضوح المقولة الشهيرة للرئيس التونسي الحالي د . المنصف المرزوقي، عندما قال إنه يحمي المرأة المنتقبة والمحجبة والسافرة بنفس الدرجة ومن دون تفرقة#171;، إن ذلك تقدم هائل من منظور الإسلام السياسي في دولة بوعزيزي التي كانت منطلق الربيع الأخضر للثورات العربية .

* ثالثاً: إن لقاءنا مع الرئيس التونسي وهو مثقف رفيع القدر ومفكرٌ عالي الدرجة كان مثمرًا للغاية، فقد تحدث الرجل عن مشكلات الفترة الانتقالية، وأشار إلى ضآلة المشكلات التونسية مقارنة بالعبء المصري، ثم عبر في وضوح عن تقديره لزعامة جمال عبد الناصر وارتباطه منذ الطفولة بالحركة الناصرية، وكيف أن والده، رحمه الله، كان يسأله في بداية الخمسينات عن أسماء أعضاء مجلس قيادة الثورةفي مصراسماً اسماً ويدعوه إلى الاستماع لإذاعة صوت العربفي فترة المد القومي والحلم العربي، كما لاحظت قبوله للآخر وفهمه للمتغيرات الدولية والإقليمية على نحوٍ يستحق الإعجاب .

* رابعاً: إن الملاحظة المشتركة بين الغنوشي والمرزوقي أن كليهما لا يتحمس لفترة بورقيبة، فضلاً عن ازدرائهما لحكم بن عليالذي اتسم بالفساد والاستبداد، بينما تميزت البورقيبيةبالشطحات الفكرية والتصرفات الغريبة، رغم أنه كان بطل الاستقلال وصاحب النظرية التدرجيةفي حل المشكلات المختلفة على المستوى الوطني والقومي، وكان العامل المشترك الثاني هو قبول كلٍ منهما لفكر الآخر وروحه، فرغم اختلاف المدارس السياسية والمنطلقات العقائدية، فإنهما يحتكمان إلى العقل والحوار قبل النص وسلطة القرار .

* خامساً: إن زيارتي إلى تونس ولقائي قمم السلطة والفكر فيها، جعلتني أشعر بأننا في مصر مستغرقون في التفاصيل تائهون في الإجراءات القانونية، منغمسون في التصفيات السياسية، بينما الأولى والأجدى أن نجتمع على كلمة سواء وأن نمضي بالوطن على طريق الإصلاح الحقيقي بدلاً من إهدار الوقت في مساجلاتٍ لا مبرر لها، وتراشقٍ لا فائدة منه، وحالة تربصٍ متبادل بين الإسلاميين والليبراليين، بينما يجب أن يقف الجميع على أرضية وطنية مشتركة بدلاً من ذلك النزال الغث لبلدٍ يحتاج إلى جهد أبنائه قبل كل شيء .

. . إن زيارتي لذلك البلد الشقيق (تونس الخضراء) قد أعطتني أملاً بغير حدود في أن تتمكن مصر من تجاوز عثراتها واقتحام مشكلاتها بالعقل والمنطق والضمير، وكفانا فرصاً ضائعة حتى نفكر بأسلوب عصري في الدولة الوطنية الحديثة، ولقد أسعدني كثيراً ما لاحظته من تقديرٍ مشترك لوثيقة الأزهر الشريفوشيخه وعلمائه ودوره التاريخي إلى جانب جامعتهم الإسلامية العريقة الزيتونة#171;، وآمنت بأن لدينا قوى ناعمة مشتركة يمكن أن تصعد بنا إلى أعلى إذا أحسنّا الاختيار ومضينا في الطريق السليم، فالإسلام هو الدين الذي جعل التفكير فريضةودعا إلى التسامح واحترام الغير والتعايش مع الآخر . . إننا نتطلع إلى يومٍ نتوقف فيه عن الهدم لنبدأ البناء . . نتوقف فيه عن التجريح لنبدأ إقامة مجتمعٍ العدالة الاجتماعية المفقودة عبر السنين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"