إسبانيا تبحث عن حكومة

02:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

بعد أربع سنوات على حكم الحزب الشعبي (اليميني)، بزعامة ماريانو راجوا، جرت الانتخابات التشريعية في إسبانيا في العشرين من ديسمبر/كانون الأول 2015، فقلبت نتائجها المشهد السياسي والحزبي رأساً على عقب، وأدخلت البلاد في حقبة من عدم الاستقرار لا تزال مستمرة إلى اليوم.
وقتها توجه 46 مليون ناخب إسباني إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء البرلمان الثلاثمئة والخمسين، بمجلسيه النواب والشيوخ. فاز الحزب الشعبي الحاكم بنسبة 28.7٪ من الأصوات، فحصل على 123 مقعداً، وحل ثانياً الحزب الاشتراكي الإسباني بنسبة 22٪ فحصل على تسعين مقعداً. وفي الحقيقة، رغم أن الحزب الحاكم بقي في المركز الأول إلا أنه خسر ستين مقعداً من تلك التي كان يحتلها عشية الانتخابات. لكن خسارته هذه لم تكن لمصلحة الحزب الاشتراكي الذي خسر بدوره عشرين مقعداً، ولكن، وهنا المفاجأة، لمصلحة حزبين جديدين تأسسا في العام 2014: اليساري بوديموس (20.7٪ من الأصوات ما يعادل 69 مقعداً)، والوسطي سيودادانوس (13.9٪ أي أربعين مقعداً).
إنها المرة الأولى منذ أن أضحت إسبانيا ملكية دستورية بعد أربعين عاماً على الدكتاتورية الفرانكية (من فرانكو) التي لا يحصل فيها أي من الحزبين الكبيرين على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان (176 مقعداً من أصل 350) التي تؤهله لتشكيل الحكومة.
وعملاً بنصوص الدستور كلف الملك فيليب السادس وقتها رئيس الوزراء راجوا إجراء المباحثات اللازمة مع التشكيلات السياسية الأخرى بغية الخروج بائتلاف حكومي يقود البلاد. لكن بعد شهر كامل من المفاوضات العسيرة أعلن ماريانو راجوا عن فشله في تشكيل حكومة ائتلافية، فعمد الملك عندئذ إلى تكليف زعيم الحزب الاشتراكي بدرو سانشيز بهذه المهمة. وفي الرابع من مارس/آذار الماضي استسلم سانشيز لليأس فاعترف بعجزه عن التوصل إلى اتفاق مع الأطراف الأخرى، والتوفيق بين الشروط والشروط المضادة. فما كان من الملك إلا العمل بموجب الدستور والدعوة، في 26 إبريل/نيسان الماضي، إلى إجراء انتخابات تشريعية ثانية حدد لها موعداً في 26 يونيو/حزيران الماضي.
لم تأت هذه الانتخابات بجديد، إذ إنها لم تعط أياً من الحزبين الكبيرين ما يكفي من المقاعد لتشكيل حكومة بمفرده، فكان على الرئيس المكلف، وهو مجدداً راجوا، إجراء المزيد من المشاورات والمفاوضات لاستيلاد ائتلاف يحكم البلاد. وفي الثاني من أغسطس/آب الماضي تقدم راجوا بتشكيلة يمينية، لكنها لم تحظ بثقة المجلس النيابي المنتخب. وكرر المثول أمام البرلمان بتشكيلة جديدة في الثاني من الشهر الجاري لكنه مجدداً أخفق في الحصول على الثقة.
وإذا لم تتشكل الحكومة في غضون الشهر المقبل سوف يضطر الملك فيليب السادس إلى حل البرلمان المنتخب، والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، هي الثالثة من نوعها في أقل من عام واحد.
أقل ما يقال عن المأزق الذي دخلت فيه إسبانيا أنه أزمة سياسية حادة ذات مفاعيل خطرة. فالبلاد تحكمها منذ ثمانية أشهر حكومة تصريف أعمال على خلفية عجز عن الاتفاق على تشكيلة حكومية تكون حصيلة اتفاق بين الأحزاب داخل الطيف اليميني نفسه، أو اليساري، أو ما بينهما.
والمراقبون لم يفاجؤا بهذا المأزق على ما يبدو لأن العطل الذي طرأ على النظام السياسي الإسباني ليس إلا ثمرة لأزمة متعددة تضعف المؤسسات الدستورية منذ سنوات عدة. هناك أزمة النظام الانتخابي النسبي، بدوائره ال 52، الذي يحبذ الثنائية-الحزبية. هذه الثنائية التي رفضها الشعب الإسباني في انتخابات ديسمبر/كانون الأول الماضي، وجدد رفضه لها في انتخابات يونيو/حزيران، لأنها حصرت تداول السلطة بين الحزبين الشعبي اليميني، والاشتراكي اليساري، على خلفية فضائح فساد طالتهما غير مرة. وفي ما عدا الفساد فإن الأزمة الاقتصادية تضرب إسبانيا منذ العام 2008، ما رفع الدين العام إلى مستويات خطرة، والبطالة إلى 21،4٪ (العام 2015). وقد تسببت سياسة التقشف التي اتبعتها الحكومة بسخط شعبي عبّر عن نفسه بإدارة الظهر للحزبين الكبيرين، والتصويت لمصلحة حزبين جديدين قدّما الوعود بمكافحة الفساد والتصدي للأزمة المالية والاقتصادية: حزب اليسار البديل (بوديموس)، وحزب الوسط (سيودادانوس). وبما أن هدف الجميع بات الوصول إلى أغلبية مطلقة لتشكيل حكومة بأي ثمن، فإن الأمل الوحيد المتبقي هو الانتخابات التي ستجري في 25 من الشهر الجاري في بعض المقاطعات التي تتمتع بالحكم الذاتي في مناطق الباسك، حيث تجري مفاوضات واتفاقات بين أحزاب صغيرة جداً، لا نفوذ لها في المشهد السياسي العام، لكنها قد تخرج بنتائج من الممكن أن تؤدي إلى تعديل في التوازنات القائمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"