"إسرائيل" والمنزلة بين المنزلتين

04:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

عندما يلجأ الساسة الإسرائيليون إلى التعبير عن مواقفهم عبر وسائل الإعلام، فإن ذلك يعني أنهم وصلوا إلى حالة قُصوى من الغضب والإحباط، وخاصة أنهم دأبوا على ممارسة الفعل وترك تداعياته المدمرة تتحدث عن نفسها بكل صلف ووقاحة، وبالتالي فليس من المُستغرب أن تعكس التصريحات الأخيرة لوزير الحرب الإسرائيلي، مقدار الارتباك والتخبط الذي باتت تعايشه إدارة الاحتلال التي لم تعد تعرف جيداً على أي رِجل سترقص، فالخطط كثيرة وخيال المستوطنين واسع؛ لكن القدرة المتنامية للفلسطينيين على المقاومة والتطورات الإقليمية المتتالية، تمثل كلها عناصر وتطورات مزعجة تكاد تحوّل أحلام قادة تل أبيب ومستوطنيها إلى كوابيس .

لقد كان إيهود باراك واضحاً عندما أكد مؤخراً، أن الجمود السياسي ليس خياراً، متناسياً أن السياسة التي يتحدث عنها هي في الأصل صناعة إسرائيلية خالصة غير قابلة للتقليد، أما حديثه عن احتمال قيام جيش الاحتلال بانسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية مع احتفاظه بالكتل الاستيطانية الكبرى، فلا يحمل أي جديد يذكر، لأن الوضعية التي يتحدث عن إمكانية الوصول إليها، باتت تمثل واقعاً ملموساً منذ سنوات عديدة خلت، من منطلق أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يحتفظ في الأغلب بمواقع عسكرية ثابتة في أغلب مدن الضفة الغربية التي تشهد كثافة سكانية فلسطينية كبيرة، لكنه يحافظ في المقابل على قدرته وجاهزيته العسكرية الهائلة من أجل القيام بانتشار سريع في كل هذه المناطق في الحالات التي يقوم فيها بمطاردة الناشطين الفلسطينيين . ومن ثمة فإن المشهد الذي سوف يترتب على تنفيذ هذه الخطة المزعومة، لن يختلف كثيراً من حيث تفاصيله الأساسية والكبرى عمّا هو سائد حالياً، فالجيش الإسرائيلي استطاع أن يحول مدن الضفة إلى سجن جماعي كبير، وخاصة منذ أن أقدم على محاصرة ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله، قبل أن يُقدم على تصفيته جسدياً . أما الهرج والمرج الإعلامي الذي يحدث على مستوى وسائل الدعاية الإسرائيلية، بشأن المؤيدين والمعارضين لمثل هذه الخطوة، فيمكن القول إنه مُوجّه بشكل أساسي إلى الاستهلاك الخارجي وتحديداً الغربي، لأن الكيان الصهيوني لا يريد إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل يعمل كل ما في وسعه من أجل أن يسهر الفلسطينيون على احتلال أنفسهم بأنفسهم، وبدل أن يسمح لهم بالحصول على استقلال ذاتي، فإنه يدفعهم دفعاً إلى أن يقبلوا بممارسة احتلال ذاتي على أنفسهم، تماماً كالعبد الذي يستمرئ الذل ويستميت في الدفاع عن عبوديته .

والحقيقة، فإن ما قاله باراك جاء بُعَيْد التصريحات التي أطلقها رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، الأمر الذي يدفعنا إلى الاعتقاد أن هذا الأخير كان أكثر صراحة من باراك نفسه، عندما أكد أن حكومته تريد أن تتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين من أجل تجنّب تشكيل دولة تتكون من جنسيتين مختلفتين، وقال في السياق نفسه: إننا لا نريد أن نحكم الفلسطينيين، كما أننا لا نريدهم أن يُصبحوا مواطنين إسرائيليين . وهذا ما يعكس، بشكل واضح، حجم التناقض في المواقف الإسرائيلية؛ فالاحتلال المباشر أضحى جداً مكلف بالنسبة إلى النخب السياسية والعسكرية الصهيونية، كما أن القبول بمبدأ تأسيس دولة فلسطينية مستقلة يحمل في اعتقادهم مخاطر غير محسوبة العواقب . ولن يكون أمام الإسرائيليين في الأخير، سوى العمل على إقناع الجميع أن بالإمكان التوصل إلى وضعية سياسية عجيبة وغريبة لم يشهد العالم حتى الآن مثيلاً لها، نزعم أنها أشبه ما تكون بفكرة المنزلة بين المنزلتين، وتقضي بأن تتولى السلطة الفلسطينية احتلال نفسها واضطهاد شعبها وأن تُسهم من ثمة في حماية أمن جلاديها، وعلى الجميع، وفي مقدمهم الدول الغربية المانحة، أن تمول هذا الاحتلال الذاتي؛ في انتظار حدوث تطورات دولية وإقليمية استثنائية، تسمح بتهجير ما تبقى من فلسطينيي الداخل باتجاه الدول العربية المجاورة .

كل هذه المستجدات وما تحمله من تطورات قادمة في مستقبل الأيام، تجعل الشعب الفلسطيني يصل إلى القناعة نفسها التي كانت راسخة لديه منذ تأسيس حركة فتح في الفاتح من يناير ،1965 والتي كانت تلح وتؤكد ضرورة الأخذ بقاعدة أن ما أُخذ بالقوة لا يمكن إلا أن يسترد بالقوة، لأن إسرائيل لم يسبق لها حتى الآن أن تخلّت عن أي شبر من الأراضي العربية المحتلة من دون أن تكون هناك مقاومة مسلحة . ومن العيب في كل الأحوال، أن تقبل الأطراف العربية التي باتت تُؤمن شعوبها بحتمية التحول نحو الديمقراطية وسيادة الشعب، أن تتراجع أمام الضغوطات الغربية المتواصلة، التي تريدنا أن ندفع بالشعب الفلسطيني إلى القبول بهذه السوريالية السياسية التي لا نكاد نجد لها مثيلاً، إلا في عقول ومخيلة ساسة إسرائيل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"