إشكالية اللغة أمام تجديد الثقافة

03:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

في الأسبوع الماضي بيّنا المأزق التاريخي والثقافي الذي يعيشه العقل الجمعي العربي، وبالتالي انعكاس ذلك على الأزمات السياسية والحضارية التي تعيشها الأمة العربية في عصرها الحالي. وذكرنا أن إصلاح الخلل ذاك سيحتاج إلى إصلاحين جذريين، بل وثورتين عميقتين، في الحياتين السياسية والثقافية العربيتين.
دعنا نركز اليوم على بعض جوانب المدخل الثقافي لمواجهة وتصحيح نقاط الضعف في فكر وممارسات العقل العربي الجمعي.
مشكلة الثقافة العربية أنها منذ منتصف القرن التاسع عشر تراوح في مكانها، مشدودة بين تمركزين: الأول هو الحفاظ على الهوية والذاتية العربية، والثاني هو الانخراط في الحداثة والعصرنة.
فالإبقاء على الذاتية العربية، وجزء كبير منه يتعلق بالاتفاق على هوية الأمة الجامعة، يتطلب موقفاً واضحاً من موضوع التراث العربي الإسلامي: ما الذي يجب أن يحلل وينتقد ويتجاوز، وما الذي يجب أن يبقى ليضمن التواصل بين الماضي والحاضر، أي بين التراث والحداثة؟
والانخراط في الحداثة يتطلب، لكي تكون الحداثة ذاتية مستقلة، نقد حداثة الغرب المهيمنة، وتجنب الذوبان فيها. لكن ذلك يتطلب ذاتية عربية غير سلفية، وغير متزمتة، وغير منغلقة على نفسها.
والنتيجة هي عيش الأمة في صراعات ثقافية عبثية، بينما المنطق الموضوعي الهادئ يفرض السير في الطريقين: طريق بناء الذات الحرة المبدعة، وطريق الانفتاح على الحداثة غير الخائف والمتردد.
والواقع أن هناك كتابات كثيرة، ومحاولات عدة تتفق مع هذا الرأي، وتؤكد ضرورة السير في إعادة بناء الذات من خلال تعامل إبداعي مع التراث، وفي ولوج الحداثة من خلال تعامل إبداعي مع متطلباتها.
إذا اتفقنا على ذلك يبقى سؤال مفصلي يحتاج إلى جواب حاسم: من سيقوم بجعل نتائج ذلك الجهد الفكري جزءاً من واقع الحياة العربية اليومية؟ حتى الآن فشلت محاولات الحكومات العربية في حل ذلك الإشكال، كما فشلت محاولات بعض قوى المجتمع المدني العربي التي حاولت أن تقوم بهذه المهمة.
اليوم، والحكومات العربية مشغولة بقضايا الإرهاب والوسائل الأمنية لمواجهة تلك القضايا، ومشغولة بمحاولة السباحة في بحور دولية متلاطمة، وهائجة، وأمام الضعف، والوهن الذي وصلت إليه مؤسسات المجتمعات المدنية العربية عبر الوطن العربي كله، لم تبق إلا ساحة جيل الشباب العربي لإقناعه بجدوى ذلك الفكر، وإقناعه بتحمل مسؤولية تحويل ذلك الفكر إلى جزء من الواقع الحياتي العربي.
هنا سنواجه مشكلات حادة تتعلق بمدى تهيُؤ جيل الشباب العربي لقراءة وفهم أدبيات ذلك الفكر، وبالتالي تحمل مسؤوليته التاريخية لقلب ذلك الفكر إلى واقع. مشكلة المشاكل هي تراجع الإمكانات اللغوية، للغة العربية الأم، عند الملايين من أطفال وشباب العرب. فالتراجع الكبير في مستويات التعليم العام، بسبب شحّ الموارد المالية، والأخذ بمنطق العولمة الرأسمالية المتوحشة الداعي لتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، والتوسع الهائل في خصخصة التعليم، بما يستتبعه من إهمال اللغة الأم لحساب لغات العولمة الأجنبية.. هذا التراجع في إتقان اللغة الأم قاد، ويقود إلى انفصال الجيل الجديد عن تراثه الفكري والثقافي، وعن متابعة نتاج الحقل الثقافي العربي الحالي.
ولذلك، فإن عدم حل إشكالية التعليم العام والخاص، المتعلقة باللغة العربية، وبكميات ومستوى مقررات التاريخ والأدب والفلسفة والدين التراثية والعصرية التي تقدم للطلبة العرب كجزء من ثقافتهم العامة، وبناء هويتهم الذاتية العروبية، سيجعل من المستحيل الاعتماد على جيل الشباب العرب لتحمّل المسؤولية التي نتكلم عنها.
إذا أضفنا إلى ذلك انشغال الشباب الجنوني بوسائل الاتصال الاجتماعية التي تأخذ الكثير من وقته، والتي قسم كبير منها باللغات الأجنبية، وعن ثقافة الآخرين وهمومهم، فإننا أمام إشكالية معقدة.
هنا يأتي دور الأنظمة السياسية العربية، وهنا نواجه محدودية إمكاناتها، أو عجزها، أو لامبالاتها، أو عيشها في عوالم بعيدة عن عوالم الثقافة، بُعد السماء عن الأرض.
ليس الهدف تثبيط الهمم، والقول إننا أمام حائط مسدود. الهدف هو أن نعي جميعاً أن حل إشكالية التضادد المصطنع بين التراث والحداثة، والذي طال عليه الأمد، وبالتالي حل إشكاليات العقل الجمعي العربي، يحتاج إلى جيل شباب عربي متمكن من لغته القومية، وقادر على الانخراط في ثقافته العروبية، بشقيها التاريخي التراثي، والعصري الحالي البالغ الغنى والتنوّع.
مطلوب من كل المعنيين، على المستوى الرسمي، وعلى مستوى المجتمع المدني، أن يمكنوا جيل الشباب العربي من حمل مسؤوليته التاريخية في نقل العقل الجمعي العربي من حالته الحالية المتخلفة إلى حالة أكثر عقلانية، وأكثر تحرراً، وإبداعاً، وإنسانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"