احتجاجات فرنسا.. السياق والتداعيات

04:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

شهدت فرنسا احتجاجات عارمة عمّت العاصمة باريس قبل أن تنتقل شرارتها إلى مختلف المدن الأخرى، كما هو الأمر بالنسبة ل «تولوز» و«ليون» و«بوردو»، رفعت خلالها مطالب وشعارات انصبّت في مجملها على انتقاد الأوضاع الاجتماعية، لتتحوّل فيما بعد إلى المطالبة بحلّ الجمعية الوطنية ورحيل الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»..
لم تخلُ أطوار هذه الاحتجاجات التي قادها الكثير من المواطنين الفرنسيين لابسي «السترات الصفراء» من عنف وارتباك طال عدداً من المرافق والمصالح والمحال التجارية، ووصل حدّ إغلاق عدد من المعابر والطرق، ما دفع قوات الأمن إلى استخدام القوة، واعتقال عدد كبير من المحتجين وعرضهم على القضاء، فيما تراجعت نسبة السياح الوافدين على العاصمة، بسبب تزايد حدة احتقان الأوضاع داخل باريس.. ووصل الأمر إلى حد تنبيه بعض الدول لرعاياها بضرورة توخي الحذر في الديار الفرنسية، أو تأجيل السفر إليها بفعل تنامي الاحتجاجات..
إن ما يميز هذه الاحتجاجات، كونها سمحت بانخراط عدد من الفئات المجتمعية بصورة غير مسبوقة، وحّدها رفض السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي أطلقتها الحكومة الفرنسية منذ وصول «ماكرون» إلى السلطة في شهر مايو من عام 2017، والتي تفتقد بحسب الكثير من المراقبين والفاعلين السياسيين في جانب مهم منها إلى النجاعة والبعد الاستراتيجي..
رغم التحذيرات التي أطلقتها السلطات الفرنسية، فقد استمرت التظاهرات والاحتجاجات واتخذت أشكالاً من التصعيد في عدد من الأحياء الباريسية. بل إن الاحتجاجات لم تتوقف، رغم تأكيد بعض الأوساط الإعلامية أن تنظيم «داعش» يسعى إلى استغلال هذه التظاهرات للقيام بعمليات إرهابية جديدة في البلاد.
وفي غمرة تصاعد حدّة الاحتجاجات، اعتبر الرئيس الفرنسي أن ما تشهده البلاد، لا علاقة له بالتظاهر السلمي، مؤكداً رفضه للعنف الذي ينبغي محاسبة المسؤولين عنه، مبرزاً أن المحتجين لا يرغبون في الإنصات لأحد..
أعلن رئيس الوزراء الفرنسي «إدوارد فيليب» من جانبه، بعض التدابير التي ستعتمدها الحكومة من قبيل تجميد قرار الزيادة في ضريبة الوقود، والتي كانت سبباً مباشراً في اندلاع هذه الاحتجاجات.. ومع ذلك، لم يتحمس الكثير من المتظاهرين لهذه التدابير، ما جعل الاحتجاجات تتواصل..
لقد جاءت هذه التظاهرات التي بدأت ملامحها تبرز في عدد من مواقع التواصل الاجتماعي في بداية الأمر، على إثر إقدام الحكومة الفرنسية على الزيادة في نسبة الضرائب المقرّرة على المحروقات، بذرائع تتصل بحماية البيئة والتشجيع على استخدام سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة، ما اعتبره الكثير من المراقبين تراجعاً عن الشعارات الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقها «ماكرون» في حملته الانتخابية..
ويبدو أن الزخم الكبير الذي اتخذته هذه الاحتجاجات ميدانياً وشعبياً وإعلامياً، جعل الكثير من الباحثين والمراقبين يطرحون الكثير من الأسئلة بصدد الخلفيات والدوافع التي أفرزته، وما إذا كان الأمر يتعلق بحراك جديد، يذكّر ب «ثورة الطلاب» التي عمّت فرنسا في العام (1968) والتي استوعبت القوى اليسارية وعدداً من النخب الفكرية في البلاد حينئذ..
وفي الوقت نفسه اعتبرها البعض نتاجاً طبيعياً لتنامي المشكلات الاجتماعية التي مسّت الفئات الدنيا والمتوسطة داخل فرنسا، نتيجة السياسات التقشفية التي أقدمت عليها الحكومة في المدة الأخيرة، اعتبرها البعض الآخر مؤشراً على أزمة المشهد الحزبي والسياسي الفرنسيين بشكل عام، وبخاصة أن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة كشفت أزمة الأحزاب التقليدية، وحملت «مانويل ماكرون» الذي لم يراكم تجربة سياسية وحزبية وازنة إلى سدّة الحكم..
ومما يؤكد هذا الرأي أيضاً، هو أن هذه الاحتجاجات المكثفة انطلقت خارج تأطير الأحزاب الكبرى، والنقابات المعروفة، التي لم تستطع حتى توجيهها أو الحدّ من تصاعدها وتمددها، رغم تأييد البعض لها وللمطالب التي رفعت خلالها، حيث اكتفت بمتابعة هذه الاحتجاجات وتأييد مطالبها تارة، أو رفضها تارة أخرى.
أما البعض الآخر، فاعتبر أن هذه الاحتجاجات، وإن جاء تنظيمها خارج إطار الأحزاب السياسية، فهي تشير إلى تصاعد أدوار اليمين المتطرف، الذي لم تخف زعيمته «مارين لوبان» تأييدها للمطالب المرفوعة..
وأمام استمرار الوضع على حاله وبروز مؤشرات على التصعيد، أعلن الرئيس «ماكرون» ضمن خطاب، سعى من خلاله إلى تلطيف الأجواء ومنع تطور الأوضاع نحو مزيد التعقيد، عن جملة من المبادرات والسياسات التي سيعكف عليها، من قبيل إيقاف الضريبة على الساعات الإضافية، وإلغاء الزيادة الأخيرة المعتمدة على ضرائب التأمين الاجتماعي لأرباب المعاشات الذين يتقاضون أقل من مبلغ 2000 يورو، مع الزيادة في الحد الأدنى للأجور ب 100 يورو شهرياً مع مطلع عام 2019، والتأكيد أيضاً أن الأزمة تمتد جذورها إلى امتداد أكثر من 40 سنة مضت..
وقلّلت حركة «السترات الصفراء» من أهمية العرض الذي تقدّم به الرئيس، واعتبرته غير مقنع بالمرّة، مشيرة إلى عزمها على الاستمرار في الاحتجاج حتى تحقيق مطالبها المتعلقة بالمجالات الضريبية والاقتصادية والتعليمية.. ما يفتح الأوضاع مستقبلاً على كل الاحتمالات.
لقد كشفت هذه التظاهرات حجم التراجع الحاصل في أداء وحضور الأحزاب التقليدية، كما وضعت مستقبل الرئيس الحالي على المحكّ، مع وجود مؤشرات ومعطيات إحصائية تثبت تراجع شعبيته في المدة الأخيرة، كما بيّنت هذه الاحتجاجات أيضاً ضرورة وأهمية التعاطي بقدر من التوازن بين الإشكالات الاجتماعية ومختلف القضايا الداخلية ضمن السياسات العمومية واهتمامات رئيس الدولة، إلى جانب الاهتمام بالقضايا والرهانات الخارجية التي اعتبر البعض أنها ظلت طاغية على أجندة رئاسة الجمهورية في الفترات الأخيرة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"