اختبار جديد للحلم الأمريكي

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
تصر الولايات المتحدة على أن تذكّر العالم وتذكّر نفسها أنها لم تبرأ بعد من داء العنصرية الضارب بجذوره في أعماق تاريخها ونفوس الكثير من أبنائها. الصدامات التي شهدتها مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا قبل أسبوعين تؤكد هذه الحقيقة، وتؤكد أيضا أن أمريكا لم تتجاوز ماضيها العنصري البغيض.

لا يريد أنصار الماضي البائس رحيله، ولا يعترفون بأنه لم يعد أكثر من صفحة سوداء في كتاب التاريخ الأمريكي. يصرون على التشبث به ومداهمة الحاضر بأشباحه المخيفة رغم أن الآباء المؤسسين واروه الثرى مع جثامين أكثر من 600 ألف أمريكي قتلوا في الحرب الأهلية التي أشعلها رفض عدد من الولايات لتوجهات لينكولن بتحرير العبيد.
ومع ذلك لا يحتاج الأمريكيون لمن يذكّرهم بواجبهم والتزاماتهم الأخلاقية. ولا لمن يجلدهم تأنيباً وتوبيخاً على هذه الأفعال المشينة لأن منهم من يقوم بهذه المهمة، ويتصدى بشجاعة للمد العنصري. ومقابل استعراض القوة الذي نظمه في فيرجينيا النازيون الجدد واليمين البديل والفاشيون البيض، تحرك أمريكيون آخرون أكثر عدداً ونبلاً لتنظيم مظاهرات حاشدة تندد بمن يحاول بعث الروح العنصرية الخبيثة.
أمريكا ليست جنة العدل على الأرض، ولكنها ليست أيضا جحيم العنصرية الذي أوحت به مواجهات فيرجينيا. ولم تقل قط أنها المدينة الفاضلة بل تعترف بأنها أرض الشياطين والملائكة. هذا التوازن الدائم بين الجيد والسيئ، وبين الخبيث والطيب، والخير والشر هو جوهر هوية تلك الأمة، وسر تفوقها واستقرارها، رغم تنوعها، واختلافاتها الثقافية والعرقية والدينية.
ولم يتحقق الحلم الأمريكي إلا من خلال النجاح في الحفاظ على هذا التوازن الصعب بين المصالح والأهداف المتعارضة بل المتصادمة دون أن يطغى أحدها على الآخر. وبنفس الآلية نجحوا في إيجاد التوازن الصعب بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحيث يتاح لكل منها ممارسة الضغط على الآخر دون أن تتغول عليها أو تخضع لها.
ومن خلال هذا المنظور الأشمل للتاريخ والحاضر الأمريكي يجب النظر إلى الأحداث الأخيرة وفهمها، وتقدير حجمها بصورة واقعية دون تهويل أو مبالغة، ودون القفز إلى نتائج في غير محلها.
كانت العنصرية دائما موجودة داخل المجتمع الأمريكي سواء كامنة أو سافرة. ولم تتوقف مظاهرها حتى في وجود أول رئيس أسود. غير أن المواجهات الأخيرة تمثل تطوراً نوعياً من عدة وجوه. منها على سبيل المثال أن مظاهرات اليمين المتطرف كشفت عن تنامي أعداد هذا التيار، وانتشار أفكاره بين شرائح واسعة من المجتمع. وبينما كانت الحوادث العنصرية السابقة تتعلق بتورط رجال شرطة بيض في قتل مواطنين سود، فإن الصدامات الأخيرة فجرها مواطنون عاديون يحملون أفكاراً عنصرية لم يكتفوا بالمجاهرة بها، بل تظاهروا بالأسلحة النارية والعصي في إشارة لاستعدادهم للقتال من أجل نشر أفكارهم، وفرض إراداتهم على المجتمع. ثمة وجه آخر من وجوه التطور الذي تمثله الأحداث الأخيرة هو نجاح اليمين المتطرف في نقل حركته من مواقع الإنترنت التي ظل تفاعله حبيسا على صفحاتها إلى الشارع. أي الانتقال من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، وهو أهم وأخطر تطور جسدته الأحداث الأخيرة.

وكما فرض نفسه على الشارع فإن الخطوة التالية المنطقية لليمين المتطرف بكل أطيافه هي التحول إلى عالم السياسة وفرض وجوده كقوة سياسية حقيقية. ومن المحتمل أن طموحات أصحاب هذا الاتجاه ستتجاوز طموحات زملائهم من حزب الشاي وهو اتجاه يميني متشدد آخر وإن كان أقل عنصرية. وقد اكتفى هؤلاء بالعمل داخل عباءة الحزب الجمهوري.
إن حدث هذا التطور ستكون التجربة الأمريكية قد وصلت إلى مفرق طرق في رحلتها. وعليها أن تختار اتجاهها، وأن تثبت لنفسها وللعالم أن الحلم الأمريكي ما زال قادراً على البقاء ولديه القدرة على المقاومة وهزيمة أسوأ كوابيس العنصرية.
عاصم عبد الخالق
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"