استشراف أم إحباط؟

03:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

لو حاول عالِم سياسة واجتماع استشراف مستقبل الأمة العربية في بداية القرن الواحد والعشرين لخرج بصورة ترجيحية قاتمة مملوءة بالإحباط، واليأس. آنذاك كان الاستبداد السياسي مهيمناً على كامل الأرض العربية، وكان الشعب العربي فاقداً للإرادة، ومستسلماً لقدره البائس.
لو حاول العالم نفسه استشراف مستقبل العرب في بداية العقد الثاني من القرن الذي نعيش، عندما خرج الملايين إلى الساحات العامة وأسقطوا أنظمة دكتاتورية فاسدة خلال أيام معدودة، لخرج بصورة ملؤها الأمل والثقة الكبيرة بالمجتمعات المدنية العربية، وفي مقدمتها شباب وشابات العرب الذين أبهروا العالم بأساليب نضالاتهم وبقدراتهم المبهرة على تجييش الملايين. آنذاك عادت العافية السياسية وقويت المشاعر والآمال.
لكن لو عاد ذلك العالم وحاول الاستشراف بعد النكسات والفواجع والهزائم التي أوقفت الحراكات والثورات، حيثما اندلعت، وقادت إلى عودة قوى جديدة مستبدة، وظهور جماعات إرهابية، خلال فترة قصيرة قياسية، لخرج مرة أخرى بالصورة الترجيحية الأولى المملوءة بالإحباط واليأس نفسها.
اليوم، وبعد عودة الروح ويقظة الكرامة في الحراكات الجماهيرية الهادرة في القطرين الجزائري والسوداني، ومع الاستنباطات التجديدية في وسائل النضال التي شهدتهما الساحتان، ومرة أخرى أبهرت العالم، ترى ماذا سيقول عالمنا السياسي الاجتماعي إذا حاول للمرة الرابعة استشراف مستقبل هذه الأمة القادرة على تفجير المفاجآت المبدعة؟
السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما سبب هذا التأرجح في استنتاجات عالم استشراف المستقبل؟ هل إن السبب يكمن في عدم قدرة هذه الأمة على الثبات، والصبر، والنفس الطويل في حياتها السياسية، أم أن السبب يكمن في شيء آخر؟
أعتقد أن السبب يكمن في وجود نقاط ضعف في منهجية استشراف المستقبل. في مقدمة تلك النقاط هي أن استشراف المستقبل يهتم بالدرجة الأولى بالأحداث الحسية والمادية التي أمامه، من دون الأخذ في الاعتبار الظواهر غير المحسوسة والخفية في تاريخ الأمة، وفي ثقافتها، وفي وعيها لمعنى الحياة.
إن تلك النظرة المقتصرة على ما يراه الإنسان ويحسه تتولد عنها نقاط ضعف أخرى. مثلاً، تجارب الأقطار العربية التاريخية في الساحات النضالية السياسية تختلف من قطر إلى آخر. تجربة ونضج قطر مثل الجزائر، قدم أكثر من مليون شهيد في سبيل دحر الاستعمار الفرنسي، لا يمكن مقارنتهما بتجربة ونضج قطر آخر لم يدخل مثل تلك التجربة. من هنا فإن تعميم تجربة وأوضاع قطر عربي معين على كل أقطار الوطن العربي، والخروج باستشراف مستقبلي واحد يمكن أن يؤديا إلى إخطاء فادحة.
الأمر نفسه ينطبق على الاهتمام بالإحصاءات الكمية فقط، من دون الانتباه إلى الجوانب الكيفية. فالكيفية التي يدار بها حراك جماهيري في قطر قد تختلف عن الكيفية التي يدار بها حراك جماهيري في قطر آخر. هنا أيضاً تتأثر عملية الاستشراف إذا لم يؤخذ في الاعتبار هذا العامل.
ما يدعونا إلى التذكير بكل ذلك هو الجو التشاؤمي، وفقدان الأمل الذي خيم على كل الوطن العربي بمجرد حدوث انتكاسات لبعض الحراكات الجماهيرية العربية، ومطالبة شباب وشابات الأمة بالتوقف عن خوض محاولات نضالية جديدة، إذ سيكون مصيرها الفشل.
إن ما يجري في الجزائر والسودان يثبت أن التعميم في استشراف المستقبل يجب أن يؤخذ به بحذر شديد للغاية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بثورات جماهيرية كبيرة، بالغة التعقيد بالنسبة لإمكاناتها الذاتية من جهة، وبالنسبة لتشابكها بمصالح داخلية، هي الأخرى متشابكة مع الخارج، من جهة أخرى.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك ضخامة وسرعة التغيرات التي تعيشها المجتمعات العربية، لأسباب داخلية وخارجية، في حقول الحياة المعيشية الأساسية الضاغطة ليل نهار على الفرد العربي، سندرك أن محاولة استشراف المستقبل التي يتنطع للقيام بها كل من هبّ ودبّ، خصوصاً الانتهازيين من الساسة والكتبة المأجورين، يجب أن تمحص كل استنتاجاتها لفصل السم عن العسل، ولإبعاد الأمة عن الشعور باليأس والقنوط اللذين يريدهما البعض لها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"