الأمم المتحدة والأزمات العربية

03:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

ينظر الكثير من المحللين والمتابعين للسياسة الدولية، ومعهم قسم كبير من الرأي العام في مختلف دول العالم، إلى الأمم المتحدة بوصفها تمثل مؤسسة دولية كبرى تكاد تكون فارغة من المحتوى العملي الذي يسمح لها بالتأثير في مسارات التحولات السياسية في العالم بشكل فاعل، بسبب قوانينها الداخلية، وتركيبتها الحالية التي تعطي لأعضائها الدائمين صلاحيات شبه مطلقة في ما يتعلق بالملفات الكبرى التي تطرح أمام هذا المحفل الدولي. بيد أن هذا التصور السائد، وبالرغم من وجاهته، إلا أنه ينطلق من مسلمات مثالية، وغير واقعية بالمرة، لمنظومة العلاقات الدولية، لكونه يطمح إلى فرض معايير أخلاقية وسياسية متعالية لما يجب أن تكون عليه الشرائع والقوانين التي تحكم العلاقات بين الدول، والمجتمعات، ومن ثم فهو تصور لا يأخذ في الحسبان أن العلاقات القائمة بين الكيانات السياسية في العالم تنبني في الأساس على معايير القوة التي يفرضها منطق الدولة، وإرادة الإمبراطوريات البشرية، قديماً وحديثاً.
ويمكن القول في هذا السياق، إن التعامل مع المؤسسات التي أفرزها تطور العلاقات الدولية مع مطلع القرن الماضي، يتطلب إجراء تقييم موضوعي لأداء هذه المؤسسات، بخاصة في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم بوادر انهيار نسق القطبية في صورتيها الثنائية والأحادية الذي طبع العلاقات الدولية طيلة عقود من الزمن. وقد ظلت الأمم المتحدة منذ التوقيع على القانون الأساسي الذي يحكمها بسان فرانسيسكو بتاريخ 25 يونيو/حزيران 1945، تمثل الفاعل الرئيسي للسلم والاستقرار في العالم، وجرى التأكيد في هذا القانون على أن الأمم المتحدة تأسست من أجل حماية أجيال المستقبل من مخاطر الحروب، والمحافظة على الأمن الدولي، والتسوية السلمية للخلافات، والتحرك في حال حدوث اعتداءات، أو وجود تهديد ضد السلم، فضلاً عن القيام بتسويات إقليمية، وإرسال قوات أممية بهدف المحافظة على الأمن الدولي.
واستطاعت الأمم المتحدة أن تحقق نتائج إيجابية في الكثير من العمليات التي أنجزتها في الكثير من مناطق الصراع والتوتر عبر العالم، حيث قامت على سبيل المثال لا الحصر، خلال سنة 2008 ب23 عملية من أجل المحافظة على السلام في إفريقيا، والكاريبي، وأوروبا، وآسيا، ولم ينحصر هذا المجهود الأممي القائم على تجنيد قوات حفظ السلام على إسهامات الدول الكبرى في هذا المجال، حيث شاركت قوات عربية وإسلامية في عدة عمليات ناجحة من أجل إعادة الاستقرار في مناطق النزاع، الأمر الذي يؤكد أن النزاعات التي لا تتضارب فيها مصالح الدول العظمى، يجري تسويتها في الأغلب بسرعة، وبأقل الخسائر الممكنة.
وبالتالي، فإن هذا التضارب في المصالح الذي نلفيه بشأن معظم الملفات الدولية الشائكة، هو الذي يحدّ من قدرة الأمم المتحدة على التحرك بفاعلية من أجل حفظ السلم الدولي، لأن تضارب أجندات الدول الدائمة العضوية، غالباً ما يبرر لجوءها إلى التحرك خارج مظلة مجلس الأمن، حيث قامت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بتدخلات عدة في المناطق التي تعتبرها تابعة لنفوذها من أجل الدفاع عن مصالحها. كما عملت الدول الغربية في السياق نفسه على إبعاد الأمم المتحدة عن معظم العمليات التي تتعلق بحماية السلم في أوروبا، حيث تولت قيادة الحلف الأطلسي الإشراف على أكثر من 13 عملية تدخل في أوروبا، مقابل عمليتين فقط، قادتهما الأمم المتحدة في القارة العجوز حتى نهاية سنة 2012 .
وتمثل قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أبرز الملفات الدولية الكبرى التي عجزت فيها الأمم المتحدة عن الإيفاء بواجباتها في حفظ السلم وحماية المدنيين طيلة عقود من الزمن، وقد تجلى ذلك بشكل أساسي في فلسطين، وبقية الأراضي العربية التي جرى احتلالها من طرف «إسرائيل» سنة 1967، حيث قامت قوات الاحتلال باستباحة المدن الفلسطينية، وبتشريد وقتل آلاف المدنيين، من دون أن تتمكن الأمم المتحدة من لعب دورها في حماية، وحفظ أرواح الأبرياء، والمتظاهرين العزل، بسبب إقدام الولايات المتحدة على استعمال حق «الفيتو» ضد كل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالصراع العربي- «الإسرائيلي».
كما أبانت الأمم المتحدة عن عجزها عندما سمحت لقوات حلف الناتو بقيادة فرنسا وبريطانيا، بتجاوز بنود قرار مجلس الأمن حول ليبيا الذي دعا إلى حماية المدنيين من دون أن يعطي تفويضاً لباريس ولندن من أجل إسقاط نظام القذافي وتحويل ليبيا إلى دولة فاشلة، تعيث فيها الجماعات والميليشيات المسلحة فساداً، وتهدد الاستقرار في دول جوارها الإقليمي. وامتد الفشل الأممي بعد ذلك نحو سوريا. والشيء نفسه يمكننا أن نسجله بخصوص الملف اليمني الذي قادت بشأنه الأمم المتحدة مفاوضات ماراثونية بين أطراف الصراع من دون أن تصل إلى نتائج إيجابية.
ونستخلص بناءً على ما تقدم، أن الإخفاقات التي تحدثنا عنها لا تلغي أهمية وجود الأمم المتحدة، وهي تعود بشكل أساسي إلى سوء استخدام الدول الدائمة العضوية لحق «الفيتو» الذي تمتلكه داخل مجلس الأمن، لأن هذه المنظمة الدولية لا يمكنها في كل الأحوال أن تتحول إلى «حكومة عالمية» يتجاوز نطاق اختصاصاتها القانونية صلاحيات سلطة الدول المؤسسة لها، لأنها وجدت في الأصل من أجل الحفاظ على سيادة واستقلال الكيانات الوطنية، في حدود ما تسمح به مقتضيات القانون الدولي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"