"الإخوان" والدولة الوطنية

06:25 صباحا
قراءة 5 دقائق

علاقة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين بالدول الوطنية، كانت ولا تزال تطرح إشكالات عديدة في غاية التعقيد والخطورة، لأنها تصيب- انطلاقاً من سلوكيات أفراده ومرجعياتهم السياسية- سيادة الدول وكيانها الوطني في مقتل، وتُتاجر بالعواطف الروحية الصادقة والبريئة للأفراد من أجل تحقيق غايات تفتقد إلى الشفافية وتسيء إلى تضحيات شهداء الوطن، وترسُم بالتالي مشاهد شديدة السواد لمستقبل الكيانات الوطنية التي ضحى أبناؤها بالغالي والنفيس من أجل نيل الاستقلال والحرية، وتجسيد قيم المواطنة القائمة على المشاركة في تحقيق أهداف العقد الوطني، الذي صاغه زعماء الحركات الوطنية في مختلف الدول العربية . إن هذا التنظيم الذي هو في الأساس اسم على غير مسمى، يضحّي بقيم الأخوة الوطنية القائمة على المحبة والبذل والعطاء والتسامح، لمصلحة برامج سياسية قائمة على إقصاء إخوانهم في الوطن ونشر البغضاء والحقد والكراهية داخل النسيج الوطني، مع التركيز في مقابل ذلك، على الطاعة والإذعان لمبادئ الجماعة حتى إن كانت تتعارض مع المصالح العليا للدولة الوطنية .

ويمكن القول إن الدولة الوطنية أو الدولة القومية، تمثل مفهوماً مركّباً يفترض استدعاء حقول معرفية متعددة لكونه يحمل أبعاداً نظرية وسياسية وتاريخية متداخلة ومتقابلة، فهناك من ناحية أولى الدولة بوصفها تنظيماً سياسياً، وهناك من ناحية ثانية الوطن في علاقته بالأمة- في معناها الضيق المحدد جغرافياً وسياسياً وليس من حيث دلالاته الدينية والحضارية الكبرى- التي تحيل إلى مجموعة من الأفراد يشعرون بانتماء مشترك إلى مجموعة موحدة ثقافياً وفكرياً . وهذا الارتباط الوثيق بين كيانين متصلين يحمل أحدهما بعداً قانونياً وسياسياً ويحمل الآخر مكونات تتعلق بعناصر الثقافة والهوية، هو الذي يعطي للدولة الوطنية معانيها ودلالاتها السياقية والإجرائية المعاصرة . ومن ثمة فإن الانتماء للدولة الوطنية أو القطرية في السياق العربي لا يتعارض مع الانتماء الأكبر للكيانين العربي والإسلامي، ولا بد من التأكيد هنا أن الانتماء العربي يمثل حجر الزاوية في تحديد عناصر الهوية الوطنية، لأنه يستند إلى مكوِّن اللسان الذي يمثل المرتكز الذي يعمل الأفراد على التعرف انطلاقاً منه إلى ذواتهم الوطنية والثقافية، بينما يظل الدين- بالرغم من أهميته العقائدية والروحية الكبرى- عنصراً مكملاً بالنسبة إلى المواطن في العصر الحديث، لاسيما على مستوى المكوّنات التي تُسهم في تحقيق عملية التمثل الذاتي للشخصية الفردية، وبخاصة بعد أن أضحت منظومة حقوق الإنسان المعاصرة تضمن للأفراد حرية المعتقد، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية بعيداً عن كل قهر وإكراه . وبالتالي فإن هذا العنصر المتصل بحرية المعتقد يجعل الدين يحتل المرتبة الثانية بعد اللغة ومنظومة القيم المحلية المشتركة، بالنسبة إلى عملية تحديد الهُوية الوطنية والانتماء للدولة، الأمر الذي يخالف بشكل واضح اجتهادات أقطاب الإسلام السياسي الذين يجعلون من الدين العنصر الأساسي وربما الوحيد في مسار تحديد مفهوم الهُوية، ويصلون بذلك إلى تفتيت الكيانات الوطنية وإلى التفريق بين أبناء الوطن الواحد، وتحديداً في الدول التي تتميز بالتعدد الديني والطائفي، فتنظيم الإخوان على سبيل المثال لا يجد أي حرج في اعتماد استراتيجية غامضة قائمة على مبدأ السرية ويتصرف أفراده وكأنهم يمثلون دولة داخل الدولة، بحيث يكون ولاؤهم للتنظيم مقدماً على ولائهم للوطن .

ومن أجل فهم الأهمية الكبرى التي باتت تمثلها الدول الوطنية، علينا أن نضع مسألة نشأتها في السياق التاريخي والفكري الخاصين بالمرحلة المعاصرة، حيث إنه وغداة انهيار الإمبراطوريات التاريخية وتأسيس الدول الوطنية في أوروبا وفي كل دول العالم في القرنين الماضيين، أضحت الدول الوطنية تواجه في عصر العولمة تحديات كبيرة تهدد كياناتها بالانشطار والزوال لمصلحة تجمعات صغيرة مبنية على الهُويات الجزئية، وذلك حتى تكون قادرة على الانخراط بفعالية أكبر في سياق تنظيم أو تنظيمات سياسية عالمية أو إقليمية كبرى تستجيب لحاجيات العولمة الاقتصادية العابرة لحدود الدول الوطنية . وهذا ما دفع البعض إلى الحديث عن أفول الدولة الوطنية تمهيداً لنشوء كيانات سياسية عالمية لا تؤمن بالحدود الإقليمية والجغرافية ولا حتى بالخصوصيات الثقافية والسياسية للدول، وبالتالي فإن الهدف من وراء إثارة مثل هذه الإشكالية، هو محاولة توضيح الخطورة التي تميّز الدعوات السياسية والفكرية التي تهدف إلى التأكيد أن الدولة الوطنية في شكلها الحالي تمثل عقبة كبيرة في وجه تطور مشاريع جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الدينية الدولية على غرار التنظيم العالمي للإخوان المسلمين . وعليه، علينا أن نركز من خلال مقاربتنا لهذا الموضوع على فرضية أساسية مؤدّاها، أنه إذا كانت العولمة الاقتصادية استطاعت حتى الآن أن تتجاوز حدود الدول وتفرض عليها جملة من الإجراءات الاقتصادية التي ترعاها المؤسسات المالية الدولية، فإن عناصر الهوية الثقافية والسياسية التي تسِمُ الأوطان والأمم بميسمها، ستظل قادرة على إعادة الانسجام والتوازن الداخلي للدول الوطنية، وبالتالي فالمحافظة على كيان الدولة الوطنية يمثل رهاناً مركزياً لكل الشعوب والحضارات . ويُفترض في كل تطور قد يحدثُ لاحقاً على مستوى الهياكل التنظيمية للدولة الوطنية- وتحديداً في الوطن العربي- أن يحترم العناصر التأسيسية المكوِّنة لها، وألا يكون التكامل الاقتصادي والتقارب السياسي سبباً في تفتيت وحدة الدول وفي القضاء على هويتها وخصوصياتها الثقافية ومرجعياتها الوطنية .

ونزعم في هذا السياق أن الفرضية الأساسية التي سعينا إلى الدفاع عنها في هذه العجالة، تتعلق بشكل أساسي بأهمية المحافظة على كيانات الدول الوطنية . من منطلق أن العولمة الاقتصادية، وما يتصل بها من مشاريع تتعلق بالتكتلات السياسية، لا تفترض بالضرورة حدوث عولمة ثقافية أو سياسية، نظراً للخصوصية التي تميِّز العناصر المتعلقة بالهُوية الوطنية، كما أن مفاهيم العدالة الاجتماعية والدولة الراعية، لا يمكنها أن تتجسد بفعالية إلا في سياق دولة وطنية ذات نسيج اجتماعي متماسك . وفضلاً عن ذلك فإن الفضاء العمومي الذي يضمن تواصلاً حيوياً ومؤثراً بين المواطنين، لا يمكن أن يؤدي دوره بشكل فعّال، إلا في سياق دولة وطنية يتمسك أفرادها بخصوصياتهم وقيمهم المشتركة . وعلاوة على كل ذلك فإن الدولة الوطنية لا تمثل فقط ضرورة سياسية وتنظيمية، بل هي الكيان الذي أضحى الإنسان في الحقبة المعاصرة يتعرّف انطلاقاً منه إلى نفسه بوصفه مواطناً له من الحقوق بقدر ما عليه من الواجبات، وستكون فرضية العقد الاجتماعي في حد ذاتها خالية من المعنى، في صورة ما إذا زالت الدولة الوطنية لمصلحة تنظيم سياسي جديد، يكون فيه الأفراد مجرد رعايا لأولياء الأمور في إمبراطورية عالمية علمانية أو إقليمية دينية، وليسوا مواطنين كاملي الحقوق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"