الانفصام في الحياة السياسية العربية

03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.علي محمد فخرو

كنا، منذ فترة، نصف المشهد السياسي العربي، خصوصاً بعد حراكات ما يسمى «الربيع العربي»، بأنه مشهد سريالي. في ذلك المشهد تختلط الصور وتمتزج الظلال لتكون لوحات سياسية غير واضحة أومرتبة، وبالتالي غير مفهومة.
وكما تدل الحياة السريالية التي يعيشها بعض الأفراد على تشوش في الفكر واهتزاز في توازن الشخصية، فإن الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات والدول التي تسمح الظروف بأن تقلب الأحداث حياتها إلى صور سريالية متنافرة.
ولكن يظهر أن ذلك المرض السلوكي والفكري قد تحول تدريجياً لدى بعض الأنظمة، إلى مرض نفسي وعقلي خطر مدمر للذات، يتمثل في انفصام شخصية تلك الأنظمة وتحويلها إلى شخصيتين متناقضتين قادرتين، بتبريرات نفعية، على التعايش بانسجام وتعاضد.
فلقد كانت شخصية الأغلبية من أنظمة الحكم العربية، منذ بضعة عقود، تتعايش فيها المشاعر والالتزامات والمصالح الوطنية المحلية مع المشاعر والالتزامات والمصالح القومية المشتركة الكبرى.
وحتى الأقلية الصغيرة من أنظمة الحكم العربية، التي لم يتوفر في شخصيتها ومسلكيتها ذلك التوازن، منعها الخوف أحياناً، من مضادة مشاعر شعوبها الوطنية والقومية العفوية المتلازمة بصورة طبيعية أخوية، كما منعها من الشطط أمام قوى الخارج الاستعمارية المعادية لهذا الجزء من الأمة العربية أو ذاك.
ومناسبة الدخول في تلك الملاحظات الموجعة للقلب، ردود الأفعال العربية تجاه القرارات النرجسية العدائية الفضائحية، المغموسة في هوس ديني مفتعل صهيوني، للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتحريض من صهره الصهيوني كوشنر، تجاه القدس العربية منذ بضعة أشهر، وتجاه الجولان العربي منذ بضعة أيام.
وكان المنتظر، كحد أدنى، أن يصدر قرار عربي موحد، يعتبر القرارات الرئاسية الأمريكية الأخيرة قرارات حرب عدوانية على كل الأمة (وليس فقط خاطئة أو مخالفة للشرعية الدولية)، وأنه ستكون لها انعكاسات على كل المصالح والعلاقات الأمريكية في كل الأرض العربية.
لنذكر هنا بأن عرّابي المافيا من السراق الذين يوزعون ما لا يملكون لا يخافون إلا من المواقف الرجولية الندية الشجاعة لمن يواجهونهم بشرف.
وكان المنتظر، كأول رد فعل، دعوة سوريا للعودة إلى الجامعة العربية كتأكيد قومي بأن سوريا هي جزء من وطن عربي واحد، وأنها لن تترك لوحدها لتجابه صلف نظام الحكم الأمريكي.
كان التعلل بضرورة الإجماع لإرسال الدعوة تعللاً غير مقبول، وغير منطقي تحت ظروف هذه الهجمة العدوانية الجديدة على الوطن العربي.
ودعنا نذكر هنا بأن سوريا لا تتمثل فقط في نظام حكم، لدى بعض أنظمة الحكم العربية مشاكل معه مثلما لديه هو الآخر مشاكل معها. سوريا هي قطعة وجودية من الوطن العربي، فهي شعب عربي أثبت عبر التاريخ وفي العصر الحديث على الأخص، أنه من أكثر شعوب الأمة العربية وفاء لالتزاماته القومية ومن أكثر شعوبها كرماً واحتضاناً وتضحية من أجل أي من المنكوبين والمشردين واللاجئين والمضطهدين العرب.
لقد وقفت سوريا، شعباً وحكومة، في كل حرب ومعركة خاضتها أقطار من الأمة العربية ضد أعداء العرب الكثيرين. لقد خسرت الجولان، كأرض محتلة من قبل العدو الصهيوني، من جراء وقوفها المشرف مع شقيقتها مصر إبان معركتها العادلة ضد الكيان الصهيوني، عندما وقف الكثيرون يتفرجون.
فهل هكذا يجازى الشعب العربي السوري الشقيق، المبهر في عطائه وتاريخه وتضحياته الهائلة، وهو يخوض حربه الوجودية مع عتاة الإجرام الجهادي الإسلامي المزعوم في الداخل وضد التكالب الخارجي، الذي تقوده أمريكا والصهيونية، من أجل تفتيت أرضه وتدمير كل مكوناته الحضارية والمعيشية؟
من الواضح جداً أن قوى الشر الداخلية والخارجية ترمي إلى جعل الشعب العربي في سوريا يكفر بالعروبة وبارتباطاته القومية وبأخوة الإسلام، تماماً كما حاولت وتحاول تلك القوى فعل الأمر نفسه حالياً بالنسبة للشعوب العربية في فلسطين والعراق وليبيا واليمن ومصر، وسيأتي الدور على الآخرين الحالمين بأنهم سيكونون في مأمن من مؤامرات الداخل والخارج المماثلة.
ويظهر أن قبول فقدان الجزء تلو الآخر من الوطن العربي للغير أصبح سلوكاً ملازماً للبعض في بعض أرض العرب.
أما بالنسبة لأمريكا، فقد كنا نأمل إجراء مراجعة شاملة جادة لكل علاقات العرب السياسية والاقتصادية والأمنية والشخصية مع نظام حكم حالي لم يبق ابتزازاً إلا ومارسه، ولم يبق احتقاراً للعرب إلا وأعلنه، ولم يبق شرعية دولية إلا وداس عليها، ولم يبق اتفاقيات ومعاهدات عربية معه إلا وألقى بها في سلة المهملات.
نعم هناك انفصام في الشخصية يتعايش فيها جبروت وتسلط وتهديدات وعنتريات في الداخل مع سلوك ضعيف ذليل مستسلم في الخارج.
لك الله يا شعب سوريا الرائع المبهر إلى أن تتعافى تلك الشخصية العربية من انفصامها المأساوي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"