التعلُّم من أنموذج عربي ناجح

03:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو

لننطلق مما حفره الفعل سابقاً في الواقع، ومما يحفره حاضراً، قبل أن ننتقل إلى مقتضيات المستقبل؛ ذلك أن أحداث الواقع العربي تزخر بالدروس والعبر.
نحن هنا معنيون في الدرجة الأولى بمحاولات التغيير السياسي الجذري من قبل جماهير شعبية كثيفة، بمساعدة قيادية فاعلة من قبل كتلة كبيرة متفاهمة من مؤسسات المجتمع المدني السياسية والنقابية والمهنية. ولنقتصر زمناً على السنوات الثماني الماضية، ومكاناً على نماذج من أقطار الوطن العربي. هنا نمتلك أنموذجين متقابلين في الفاعلية والنتائج.
الأنموذج الأول، كان في شكل تظاهرات جماهيرية مليونية، ضمت أفراداً عاديين ومثقفين وأشكالاً كثيرة من مؤسسات المجتمع المدني المعارضة للحكم المستبد الفاسد؛ لكنها افتقدت إلى وجود قيادة واحدة تمثل جميع مكونات ذلك الحراك الجماهيري، وتنطق وتتصرف باسمه، وترسم له نشاطاته اليومية، وفي الوقت نفسه تتمتع بثقة غالبية أفراده، وأفراد المجتمع بصورة عامة.
غياب ذلك التنظيم القيادي، القائم على أسس ثورية توافقية من جهة، وعلى تنظيم وتوافق ديمقراطي من جهة ثانية، سمح باختراق تلك الحراكات الجماهيرية، والالتفاف حول مطالبها، وتأجيج الخلافات فيما بين مكوناتها، ودسّ الانتهازيين والاستخباراتيين في صفوفها، ومن ثم إدخالها في دوامة العنف. فكانت النتيجة تغيير بعض أوجه ومؤسسات النظام المستبد الفاسد السابق، الذي كان يراد تغييره؛ ولكن دون سقوطه كلياً، ومن الأعماق والجذور والشمول.
وهكذا ضاعت فرص تاريخية لإحداث تغييرات هائلة، وبُّددت تضحيات جماهيرية كبرى، لتنتهي إلى انتكاسات مفجعة، ما زالت معنا إلى يومنا هذا. ذاك كان أنموذجاً من الماضي.
أما الأنموذج الثاني فإنه ماثل أمامنا في حراكين جماهيريين هائلين في قطرين عربيين؛ هما: الجزائر والسودان. في هذه المرة استوعبت مكونات الحراكين دروس التجارب التي سبقتها، ونجحت في إيجاد صيغة قيادية توافقية، يبدوا أنها ديمقراطية في تركيبتها، واتخاذ قراراتها، استطاعت أن تدمج بصورة ناجحة أفراداً وقوى تمثل الأحزاب والنقابات والجمعيات والأفراد الملتزمين النشطين، وبالتالي جعل الكتلة الجماهيرية المليونية كتلة متفاهمة ومتناغمة يصعب اختراقها أو الالتفاف حول مطالبها أو إنهاكها وإدخالها مراحل الملل واليأس أو دخول الانتهازيين ضمن صفوف قياداتها.
شعور الجماهير بالثقة في تلك القيادة، وبأنها تمثلهم، وبأنها لن تتخاذل عن التضحية معهم إن لزم الأمر، هو الذي يفسر القدرة الهائلة على إبقاء جذوة التجييش مشتعلة يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، دون تراجع ولا كلل ولا يأس. وفي الحالتين لم تنخدع الجماهير بالأقوال دون الأفعال، ولم تقبل الحلول الوسط المؤدية في النهاية إلى إبقاء الأوضاع السابقة كما كانت عليه في الجوهر، ولكن وراء أقنعة مزيفة ومكياجات خادعة.
في هذه المرة عرفت الجماهير أن التغييرات المجتمعية الكبرى تحتاج إلى نفس طويل، وصبر وإصرار وضغط تراكمي على من يرفضون حدوث تلك التغييرات.
الأنموذجان يمثّلان درساً للمستقبل، وهذا الجانب هو لب موضوعنا. لقد كانت تجربة الأنموذجين على المستوى الوطني القطري، فماذا عن المستوى القومي العربي لأمة العرب ووطن العرب؟.
لا حاجة للدخول في التفاصيل المملة بشأن الأخطار والكوارث الهائلة التي تحيط حالياً بالأمة كلها، ولا بشأن الدمار البشري والعمراني الذي يعيشه الوطن العربي كله حتى ولو بنسب متفاوتة.
إن الوطن العربي يواجه الآن مؤامرة كبرى من قبل بعض الدول، ومن قبل هجمة صهيونية يمينية متطرفة مترامية، معقدة ومستميته، تقابل تلك الأخطار صراعات وتمزقات في الجسد العربي، لا مثيل لها في تاريخ العرب كلُه، الأمر الذي أنهك وأضعف المجتمعات العربية وأوصل العمل القومي المشترك إلى الحضيض في مقدار فاعليته للوقوف في وجه تلك الأخطار؛ ولأن مقدار الدمار والأخطار أصبح هائلاً ومتشابكاً؛ أصبحت أية جهود وأية نجاحات على المستوى الوطني القطري غير كافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على المستوى القومي.
من هنا طرح السؤال الآتي: هل يمكن الاستفادة من نجاحات الأنموذج الثاني لخلق أنموذج ثالث مماثل، ولكن على المستوى القومي في هذه المرة؟ هل تستطيع بعض الأحزاب وبعض النقابات وبعض الجمعيات المهنية وبعض الأفراد الملتزمين، مّمن وصفهم في السابق بعمق وثورية المناضل الإيطالي غرامشى.. هل يستطيع هؤلاء أن يستجيبوا للتحديات التاريخية الحالية الهائلة التي تواجهها الأمة، فيخلقوا نواة قيادة توافقية، متعاضدة متناغمة، محكومة بالأسس والمنهجية الديمقراطية في تركيبتها وعملها وقراراتها، قادرة على كسب ثقة الملايين من شباب وشابات الأمة العربية، مناضلة بسلمية؛ لإحداث نجاحات تراكمية في الواقع العربي من جهة، ولإيقاف تمدّد الاستباحة الاستعمارية والصهيونية من جهة ثانية، قادرة مع الوقت وباستمرار على اجتذاب قوى جديدة؛ للانضمام إلى تلك النواة؛ لتصبح في النهاية كتلة تاريخية نضالية تحارب بألف طريقة؛ من أجل إخراج هذه الأمة من الجحيم الذي تعيشه إلى نهضة عربية حديثة تستحقها؟
لا يحتاج الوضع العربي المأساوي الحالي إلى مزيد من التشخيص والأهداف الحضارية المستقبلية؛ بل يحتاج إلى تبنّي الأمة كلها لنماذج ناجحة فاعلة في بعض من أجزاء وطنها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"