التمثيلية الأمريكية لا تخص العرب

02:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو

هذا اللغط العربي حول ما سيأتي به الرئيس الأمريكي الجديد من مفاجآت تجاه الأوضاع العربية هو جهد ضائع، بل وثرثرة سياسية إعلامية لن تفصح عن شيء جديد. وقد آن لنا، نحن العرب، أن نقتنع بأن ثوابت السياسية الأمريكية تجاه الأمة العربية لن تتبدل بمجيء هذا الرئيس أو ذاك. ومثلما انتظرنا الكثير من الرئيس الأمريكي المغادر، فلم نحصل إلا على القليل، فكذلك سيكون الأمر مع الوجه الجديد.
لن تتغير الثوابت الاستراتيجية الأمريكية التالية قيد أنملة. وهي استراتيجية لا يزيدها مرور السنين إلا رسوخاً، وتفنناً في التلاعب بأقدار الوطن العربي، وتلذذاً بعذابات الملايين من ساكنيه.
سيبقى الكيان الصهيوني الحليف مقدماً على كل حليف عربي آخر، وستبقى العين الأمريكية مغمضة عن كل جرائم ذلك الكيان، وستستمر المساعدات العسكرية، والمالية، والعلمية، والسياسية، والدبلوماسية بالزخم نفسه، وسيظل الطفل الشيطان ملاكاً في عين أمه.
ومن أجل إرضاء ذلك الحب المريض لن تسمح أمريكا بوجود جيش عربي قوي قادر، ولا بوجود نظام حكم مقاوم ورافض للتطبيع، ولا بقيام سلطة فلسطينية غير كسيحة وعاجزة، ولا بقيام نظام حكم ديمقراطي مستقل عن إرادتها وخدمة مصالحها.
ولن تتراجع أمريكا عن استراتيجية الهيمنة على ثروات البترول، والتحكم في كل السياسات المتعلقة بتلك الثروة، وغض الطرف عن الجنون الإرهابي التكفيري طالما بقي محصوراً في أرض العرب، وطالما أن عنفه لا يزعج الكيان الصهيوني، ولا يتهدده، والتدخل اليومي في الشؤون الداخلية لكل قطر عربي حتى لا يخرج عن الخطوط الحمر للسياسة الأمريكية، وأخيراً التأكد من عدم توجه العرب نحو أية وحدة قومية من أي نوع.
وستكون تلك الاستراتيجيات ليست قابلة للتغيير بتغير الرؤساء. وإذا فشلت الرئاسة الأمريكية في التبني الكامل لتلك السياسة فسيقوم الكونغرس الأمريكي، ويهب مجلس النواب، ويتدخل اللوبي الصهيوني، وتضغط المصالح الصهيونية في حقلي المال والإعلام، سيفعلون كل ذلك لتصحيح مسار الرئاسة.
ما نحتاج نحن العرب، أن نفعله ليس الاندماج المضحك في اللغط حول المتغيرات الأمريكية التي في الأصل لا تعطي أي اهتمام بوجودنا، وطموحاتنا، وحقوقنا، وإنما، بدلاً من ذلك، أن نطرح الأسئلة حول بناء الندية العربية تجاه الندية الأمريكية.
هنا مربط الفرس، وهنا نقطة الانطلاق في التعامل مع السياسات الأمريكية المتخبطة، المذلة تجاه العرب، التي لا يهمها إلا المصالح الأمريكية، والتي تتميز بالأخذ الكثير والعطاء القليل.
والواقع أن بناء تلك الندية تجاه أمريكا هو بناء الندية في وجه الكثيرين الآخرين، سواء بعض الدول الأوروبية التي تتعامل مع قضايانا بالطريقة الانحيازية الأمريكية نفسها، وأحياناً بطريقة أشد وأسوأ، أو سواء بالنسبة إلى بعض الدول الإقليمية التي أصبح بعضها لاعباً رئيسياً في هذه الساحة العربية، أو تلك. ولا حاجه للحديث عن التدخلات الإيرانية والتركية اليومية التي أصبحت تهزأ بالوجود العربي، وتتعامل معه كجسم مريض عاجز. وإلا هل يعقل أن الدولتين أصبحتا تمثلان العرب في كل النقاشات الدولية، بينما تقبع دول العرب وجامعتهم العربية المشلولة في الزاوية، وهم يتفرجون، ويتلعثمون وينتظرون الفرج؟
لكن تلك الندية العربية لا يمكن بناؤها في أجواء التشاحن العربي - العربي. فالخلافات العربية البينية في المغرب العربي الكبير لا تنطفئ في مكان حتى تتجدد في مكان آخر، والصراعات العربية البينية في المشرق العربي حول ما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن، والمماحكات الإعلامية التي ما إن يهدأ أوارها هنا، حتى تشتعل نيرانها هناك، والتي يزيد في بلاءاتها وفواجعها سفه بعض الإعلاميين وصبيانيتهم، كل تلك الخلافات والمشاحنات لا يمكن أن تؤدي إلى بناء الندية التي نتحدث عنها.
فإذا أضيفت إلى ذلك الجهات الداخلية والخارجية التي تعمل من وراء أقنعة، مثل أجهزة الاستخبارات، وبعض الأحزاب الانتهازية، وبعض المؤسسات المدنية العربية المرتبطة بالخارج، بلادة أو اضطراراً أو تآمراً، فإن المشهد العربي قد أصبح سريالياً بكل معنى الكلمة، وأصبح اللاعبون في كل موضوع يعدون بالعشرات. ولعل المشهد السوري هو أوضح مثال على ذلك.
وإذا كانت القيادات العربية تعتقد أن الزمن كفيل ببناء تلك الندية العربية فإنها ترتكب جريمة تاريخية مفجعة وخطرة. وإذا كانت تعتقد أن انشغالاتها الصغيرة ستقود إلى حلول كبرى، فإنها تعبث بمصير هذه الأمة. وإذا كانت المؤسسات المدنية العربية في مجتمعات العرب المنهكة ستظل هي الأخرى تراقب وتنتظر فإنها هي الأخرى تساهم في خروج العرب من التاريخ. وإذا كان الكل سينتظر الفرج على أيدي أمثال الرئيس دونالد ترامب فانهم سينتظرون طويلاً.
جاء ترامب، أو ريغان، أو بوش، أو أوباما، صعد نتنياهو وليبرمان، أم غطسا في فضائحهما المالية والجنسية، فإن الحل يقبع في أرض العرب، ولا غير وطن العرب.
يوم غد الجمعة، يوم تنصيب الرئيس الجديد، لن يكون أكثر من يوم تمثيلية مضحكة، ومبكية، بالنسبة إلى العرب؛ لا بأس أن يستمتعوا بمشاهدتها، ولكن عليهم ألا يعيشوها، فهي تخصّ غيرهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"