الثورة الشعبية في عيدها المئوي

02:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .مصطفى الفقي

عرف المصريون انتفاضات مختلفة في مراحل متعددة من تاريخهم الحديث، وتفننوا في إطلاق كلمة ثورة على كل منها، رغم أن مدلول الثورة لا يعني فقط تغيير النظام السياسي أو تبديل الوضع الاقتصادي، ولكن له دلالة أعمق من ذلك بكثير، فالثورة لا تكتسب قيمتها إلاّ من شعبيتها وتعبيرها عن إرادة الغالبية العظمى ممن يعاصرون وقوع أحداثها، ولابد أن يكون لها مخرجات مختلفة لا أن تكون إعادة إنتاج للماضي. فالثورة لابد أن يكون لها هوية سياسية وفلسفة فكرية وإطار اقتصادي، بحيث تكون نقلة نوعية حقيقية في حياة الوطن، وليست مجرد انفعال وقتي، يؤدي إلى تغيير مفاجئ، دون أن يصاحبها إصلاح مدروس، له برنامج محدد يؤدي إلى نتائج واضحة. فالثورة الفرنسية على سبيل المثال عبّرت عن الشخصية الفرنسية الحديثة أصدق تعبير، وانتصرت لإرادة الشعب الفرنسي ثم انتقلت عدواها إلى كل أوروبا، وانتشرت مبادئها الثلاثة في أدبيات العمل السياسي المعاصر. ولقد عرفنا في مصر الحديثة، انتفاضات متتالية بدءاً من ثورة القاهرة الأولى، والثانية ضد قوات الحملة الفرنسية وقادتها الثلاثة: (نابليون) و(كليبر) و(مينو)، كما انتفض الشعب المصري بعد ذلك مرات متتالية، بدءاً من هوجة (عرابي) مروراً بالحركة المباركة عام 1952، وصولاً إلى الانتفاضتين الكبيرتين: الأولى في عام 2011 ضد نظام الرئيس الأسبق مبارك، والثانية في عام 2013 ضد حكم الإخوان المسلمين. وفي كل هذه الأحوال، غاب عن المشهد أمر لم نتوقف عنده، وأعني به ذلك التغيير الجذري في أساليب التفكير وبرامج الإصلاح والشعارات السياسية المطروحة، واحتشاد الشعب وراء قيادة وطنية طلباً للاستقلال والدستور، وذلك النموذج يبدو أكثر وضوحاً في ثورة عام 1919 التي نحتفل هذه الأيام بمئويتها الأولى، ونذكر أن تلك الثورة طرحت شعارات تتصل بمقاومة قوات الاحتلال البريطاني وتأكيد الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين من أبناء مصر، فضلًا عن انطلاق شرارة تحرير المرأة المصرية، بقيادة الرائدات من أمثال هدى شعراوي وصفية زغلول، وغيرهما، كما امتدت إلى الآداب والفنون، ونشط رجال من أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى وعلي عبد الرازق، ليضعوا خارطة جديدة لمستقبل الوطن المصري، كما انعكس الأمر ذاته، على الفن، فكانت أعمال النحات العبقري محمود مختار مثالًا حيّاً على مواكبة الفن لأحداث الثورة، التي عبر عنها سيد درويش بصوته وألحانه، وتلاميذ محمد عبده الذين بشروا بالتجديد وتناغم العلم والحياة الحديثة مع مقاصد الشريعة ، لذلك أفرخت تلك الثورة الشعبية التي قادها سعد زغلول ورفاقه، تحولاً هائلاً في العقل المصري، حتى إننا نعتبر الفترة من عام 1922 إلى عام 1952، هي الفترة الليبرالية الحقيقية في تاريخ مصر الحديثة.
وقد يقول قائل: كيف تمجد فترة شهدت الإقطاع الزراعي والتفاوت الفاضح في الثروات، فضلاً عن غياب العدالة الاجتماعية؟!، وهنا نؤكد أن مفهوم الثورة، لا يعني بالضرورة أن تلك النقلة النوعية المرتبطة بمفهوم الإصلاح، لا بد وأن تكون إيجابية بالكامل؛ بل إن هناك من الزعامات الكبيرة والأسماء اللامعة من لم يستوعبوا من تلك الثورة الشعبية إلا الهتافات العالية وصيحات الدراويش وأجراس الكنائس، بينما الأمر يختلف متجاوزاً ذلك كله ليصل إلى أعماق الإنسان المصري الذي استقبل بحذر، الاستقلال الشكلي الذي تضمنه تصريح 28 فبراير عام 1922 والتحفظات الأربعة المرتبطة به، لكي يؤكد المصريون من جديد، أنهم لا يقنعون بما يعرض عليهم، ولكنهم يتطلعون إلى تحقيق أهداف الحركة الوطنية التي ضمت المسلمين والأقباط، حتى قال مكرم عبيد - ذلك الرمز المتوهج لمفهوم الوحدة الوطنية - ذات يوم (يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا جميعاً للوطن أنصاراً). وعندما وقع الخلاف الشهير بين رئيس الوفد (مصطفى باشا النحاس) والسكرتير العام (مكرم باشا عبيد)، لم تهتز معايير الثورة، وخرج مع مكرم كثير من المسلمين، وبقي مع النحاس معظم المسيحيين، فلم يكن الفرز السياسي دينياً ولكنه كان سياسياً بامتياز، حتى إن مكرم عبيد - المجاهد القبطي - قد اكتسح ياسين أحمد باشا نقيب الأشراف في دائرة قنا، حيث الأغلبية المسلمة تسيطر على مرافق الحياة فيها.
إن الثورة ليست تعبيراً مبهماً أو كلمة غامضة، بل لابد لها من مسار واضح يقوم على الالتزام بأفكار محددة واحترام مبادئ لا يمكن الخروج عنها، فالثورة إطار إصلاحي وتعبير ثقافي، وما لم يتغير العقل فلا جدوى من حدوثها، وإلاّ أصبحت مجرد عمود يومي في إحدى الصحف، بينما ما نسعى إليه في الحقيقة هو تعزيز كل الجهد المبذول وتقديم التوصيف الدقيق للأحداث، خصوصاً وأن الثورة غالباً ما تأكل أبناءها. لذلك فإن الضمان الوحيد لتأكيد ثوريتها، مستمد أساساً من إمكانية التخلص من أعداء الشعب وخصوم تقدّمه ودعاة الإحباط والهزيمة بين صفوفه، عندئذ تكتسب الانتفاضة الشعبية مدلول الثورة، وتستطيع أن تكتسح أمامها ذلك التراكم الضخم من الشعارات البالية والأطروحات المستهلكة والأفكار العقيمة. إن الثورة - أيها السادة - كلمة كبيرة، يبدو ما جرى عام 1919، هو أقرب توصيف مصري لها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"