الحدود المتخيّلَة في زمن الأوبئة

02:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

عندما تشتد الأزمات وتدلهمّ الخطوب كما يحدث الآن مع الوباء العالمي، تعيد الشعوب لملمة عناصر هويتها القومية، وتتلمس خطوط وإحداثيات حدودها الوطنية؛ لتشعر بمزيد من الطمأنينة؛ ولتطوِّر قدراتها على التصدي للأزمات، ومثل هذه الوضعيات هي التي دفعت الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبري إلى القول: «من منطلق كوني أوروبياً جيداً، أختار الاحتفال، بالحدود؛ بوصفها تعد لقاحاً لوباء الجدران، وبوصفها علاجاً للامبالاة؛ ولكونها تحفظ الكائن الحي»؛ لأن العولمة التي جرى التبشير بها، حاولت أن تزيل الحدود؛ لكنها وضعت في مقابلها جدراناً إسمنتية سميكة من الحقد والكراهية، أسوة بما قامت به «إسرائيل» أو بما يعمل ترامب على إقامته مع المكسيك.
لقد أبانت المحنة التي يعيشها العالم؛ جرّاء تفشي الوباء أن الشعوب لا تستطيع أن تعوِّل على غير دولها الوطنية ضمن حدودها الترابية المعترف بها؛ من أجل تخفيف الآثار السلبية للأوبئة كما يحدث الآن مع هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة التي يقول بشأنها إدغار موران إنها توضّح لنا أن العولمة هي تبعية متبادلة؛ لكن من دون تضامن؛ كونها لم تسهم في تطور مستوى التفاهم بين الشعوب، كما أن وحدة المصير التي تشير إليها مثل هذه الأزمات، لا تعني شيئاً، في حال عدم وعي مشترك بأهمية التضامن بين الشعوب.
ويقودنا كل ذلك إلى الحديث عن الانغلاق الذي يحصل في هذه الأزمة وفي غيرها على الذات بين دول وشعوب ترى أن الآخرين هم الجحيم، وتلجأ في أحيانٍ كثيرة إلى إقامة الجدران؛ عندما ترى أن الحدود لم تعد كافية؛ لحماية الذات من اختراق الغرباء؛ وبالتالي فإن الاعتراف بوجود الحدود هو اعتراف بوجود الآخر، وإقرار بأنه يمتلك كياناً مخصوصاً، وسكناً خاصاً له منافذ ومعابر يتوجب الاستئذان قبل ولوجها. وفي سياق الجغرافيا السياسية المعاصرة، هناك إضافة إلى الحدود، التي تنظمها وتسهر عليها التشريعات والمواثيق الدولية شكلان رئيسيان من الحدود: حدود متحركة بالنسبة للدول التي لا تملك معالم طبيعية لرسم حدودها، وحدود متخيّلة يسعى من خلالها المهووسون إلى فرض تقسيمات وهمية؛ بناءً على أسس تاريخية هشة.
تمثل الحالة الألمانية أبرز الأمثلة على الحدود المتحرِّكة، التي لم تمنعها حدودها المتحوّلة ووجود أقليات ألمانية في الدول المجاورة من تشكيل أمة واحدة، الأمر الذي يدفع البعض إلى التساؤل عمّا إذا كانت الحدود تلعب دوراً ثانوياً في تشكيل الوعي الفردي بالهوية القومية، فقد تغيّرت الحدود الألمانية خلال القرنين الماضيين مرات عدة.
أما بالنسبة للحدود المتخيّلة التي تمثل حلماً بالنسبة للمغامرين الذين يصبون إلى إعادة النظر في خريطة الدول الوطنية، ويطمحون إلى تشكيل كيانات سياسية وهمية، فيمكن أن نقدم أبرز مثال لها؛ من خلال قيام «داعش»، بإلغاء الحدود بين العراق وسوريا، وسعيه إلى توثيق ذلك؛ عبر الصور التي بثها بتاريخ 11 يونيو/حزيران 2013، مع ادعائه في اللحظة نفسها بنهاية الحدود القائمة على اتفاقية «سايكس - بيكو» التي جرى التوقيع عليها سنة 1916؛ وهو الحلم نفسه الذي نجده لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يسعى إلى إعادة الأمجاد الغابرة للدولة العثمانية؛ عبر التدخل في العديد من الدول العربية، لاسيما في شمال سوريا وفي ليبيا.
وهناك في المرحلة الراهنة، الكثير من الصراعات الناجمة عن الحدود المتخيّلة، والتي تؤدي بين الفينة والأخرى إلى الكثير من حالات التوتر، وانعدام الاستقرار في الفضاء السياسي العربي؛ بسبب وجود تصورين متعارضين للحدود الوطنية، أحدهما: قائم على المبررات التاريخية، والثاني يستند إلى مشروعية القانون الدولي، الذي تعتمده الأمم المتحدة، ويرى الكثيرون أن خطورة المبررات والتأويلات التاريخية؛ تكمن في أنها يمكن أن تؤدي إلى إلغاء كيانات دول قائمة بذاتها، كما حدث على سبيل المثال عندما قام الرئيس العراقي صدام حسين بغزو الكويت.
ويمكن أن نخلص في الأخير إلى أنه بالنسبة للعلاقات الدولية سواء في زمن السلم والاستقرار أو في أزمنة الأزمات والأوبئة، فإن الحدود الوطنية الثابتة، قد تكون أهون الشرور في مواجهة مطامع أصحاب الحدود المتحركة، ومغامرات تجار الدين والتاريخ من أصحاب الحدود المتخيّلة الذين يروِّجون لأحلام يقظة تدفع نحو تدمير النسيج المجتمعي للدول وفق النموذج الذي تحرص على تجسيده التنظيمات الإرهابية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"