الدبلوماسية . . المفترى عليها

04:52 صباحا
قراءة 5 دقائق
قضيت في السلك الدبلوماسي المصري قرابة خمسة وثلاثين عاماً قبل أن يتم تعييني في البرلمان، وأشهد أن الدبلوماسية المصرية واحدة من أعرق المؤسسات الدبلوماسية في العالم بشهادة غيرنا ممن يرون أن السلك الدبلوماسي المصري هو التالي مباشرة للسلك الدبلوماسي الهندي من حيث الانتشار الجغرافي والخبرة التاريخية والتمرس في حل القضايا .
أقول ذلك وأنا أتابع الافتراءات التي تحاول النيل من ذلك الجهاز العريق الذي يمتد عمره لما يقرب من قرنين من الزمان وإن كان التدشين الرسمي له قد بدأ عام 1923 بعد عامٍ من تصريح 28 فبراير 1922 الذي حدد ملامح استقلال الدولة المصرية ولو شكلياً، ولعل ما تعرّض له وزير الخارجية الحالي نبيل فهمي في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية هو دليل على الرغبة في تحميل الدبلوماسية المصرية كل خطايا العصر وكافة الأخطاء السياسية من دون تعرف الجهد الضخم الذي يبذله ذلك الجهاز الوطني في تشكيل صورة مصر في الخارج وتحديد طبيعة علاقاتها على المستويين الدولي والإقليمي .
فالدبلوماسية هي الذراع الثانية لتنفيذ الأهداف العليا ورعاية مصالح الوطن إلى جانب الذراع الأولى وهي القوات المسلحة، أقول ذلك بمناسبة الحملة الظالمة التي استهدفت وزير خارجية مصر نبيل فهمي وهو المعروف بكفاءته العالية وخلقه الرفيع، حيث تصيد له بعضهم عبارة قالها في واشنطن في محاولةٍ لتحسين العلاقات وترطيب الأجواء بيننا وبين الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً أن زيارته تلك كانت موفقة وحققت نجاحاً ملحوظاً بشهادة كافة الأطراف .
وقد تعرض معظم وزراء خارجية مصر لانتقاداتٍ غير عادلة في العقود الأخيرة بدءاً من محمود فوزي أحد الآباء المؤسسين للدبلوماسية المصرية الحديثة وصولاً إلى الوزير الحالي، فالبعض يرى أن محمود رياض كان متحفظاً ومعزولاً عن واقع المؤسسة الدبلوماسية، بينما مراد غالب كان أحادي التوجه بحكم خدمته الطويلة في موسكو، أما محمد حسن الزيات فهو رجلٌ يغلب عليه الجانب الثقافي الذي يطغى على الحرفية الدبلوماسية، وأما إسماعيل فهمي الذي ترأس اللجنة الأولى السياسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة فهو نموذج للصلابة والتمسك بالرأي، كما أن الدكتور عصمت عبد المجيد هو امتداد للدبلوماسية الهادئة التي ورثها من عمله مع الدكتور محمود فوزي، أما عمرو موسى صقر الدبلوماسية فهو الذي أدارها من الشارع المصري وأكسبها شعبيةً وصلت إلى أغاني شعبان عبد الرحيم، بينما كان الراحل أحمد ماهر نموذجاً للدبلوماسي المتعدد المواهب المختلف الرؤية، ثم جاء أحمد أبو الغيط ليعبر عن الشخصية المصرية واقفاً تحت العلم الوطني رغم صعوبة الظرف التاريخي، فإذا وصلنا إلى الوزير الحالي نبيل فهمي فإننا نجده واحداً من أكثر الدبلوماسيين خبرةً وحكمةً وترفعاً عن الصغائر، لذلك فإنني أورد هنا الملاحظات التالية:
* أولاً: إن عراقة الدبلوماسية المصرية تجعل منها مؤسسة وطنية متماسكة لا يهبط مستواها ولا تتأرجح قيمتها مهما اختلفت أنظمة الحكم وأشكال السلطة، كما أن الدبلوماسية المصرية مدرسة متميزة بين دول الشرق الأوسط وإفريقيا ويجب ألا ننسى أن بعثاتنا تغطي أنحاء العالم تقريباً، والذين يتحدثون عن ضرورة تقليص عدد تلك البعثات توفيراً للنفقات لا يدركون أن وزارة الخارجية وزارة إيرادية فضلاً عن أن مردودها السياسي هو أمر حيوي بالنسبة للدولة وآفاق مستقبلها، إذ لنا في كل دولة إفريقية وعربية بعثة وهذا أمر مفروغ منه كذلك الشأن بالنسبة للدول الأوروبية والآسيوية وأمريكا الشمالية فذلك ميراث منذ العهد الملكي، أما دول أمريكا اللاتينية فلقد ورثنا بعض بعثاتها من عهد الوحدة مع سوريا واندماج السلكين الدبلوماسي والقنصلي في الإقليمين تحت راية "الجمهورية العربية المتحدة"، وكثيراً ما حدثت "هجمة" على الخارجية المصرية أدت إلى إغلاق بعض البعثات ثم تداركنا الأمر بعد ذلك وأعدنا فتحها بعد أن ضاعت المباني والمقار بفعل القرارات الحمقاء، وبهذه المناسبة فإن مصر تملك ثروة بمليارات الدولارات لمباني بعثاتها في الخارج المملوكة للحكومة المصرية التي تمثل رصيداً ضخماً للدولة بفضل هيئة تمويل المباني التي أنشأتها الخارجية المصرية منذ عدة عقود .
* ثانياً: إن الجهد الدبلوماسي مكمل للجهد العسكري وقد يعفي الدولة من تبعة خوض الحروب أو تواصل المعارك، فالحل الدبلوماسي هو أكثر الحلول تحضراً وأقربها إلى المزاج السلمي للشعب المصري، ولكن ذلك لا يعني التفريط في كرامته أو التساهل مع من يعبث بمكانته، لذلك تميزت الدبلوماسية المصرية كما قلنا بمكانة دولية رفيعة باعتراف غيرنا في جميع الأزمات الإقليمية والمشكلات الدولية .
* ثالثاً: إن اختيار الدبلوماسي المصري يخضع لقواعد وإجراءات ليست سهلة على الإطلاق، فلقد شهدت شخصياً في لجان الامتحانات الشفهية أن بعض الشباب والشابات يتقدمون للخارجية خمس مراتٍ متتالية ولكنهم لا يتمكنون عبر السنين من اجتياز الامتحان التحريري الصعب والاختبار الشفهي الذي لا يخضع للهوى، ولا يفرق بين المصريين والمصريات إلا بعلمهم وخبرتهم وخلقهم . وبهذه المناسبة أيضاً فالخارجية المصرية قبلت الفتيات المحجبات في سنوات حكم الرئيس مبارك دون إقصاء أو ترصد، ولذلك أذهلني وأزعجني إصرار الرئيس السابق مرسي على استبعادي شخصياً من المشاركة في الاختبارات الشفهية في سنة حكم الإخوان رغم أنني أجنح إلى الموضوعية ولا يحكمني هوى سياسي أو غرض شخصي، ولكن ماذا تقول لمن كان في قلبه مرض! وأستطيع أن أزعم أن اختبارات الدخول لوزارة الخارجية تمثل أكثر المعايير دقة وشفافية بين مؤسسات الدولة المصرية، لذلك ظل المستوى دائماً غير قابل للهبوط، بل إنني أزعم أن الأجيال الجديدة من الدبلوماسيين المصريين تتفوق أحياناً على الجيل المعلم ذاته .
* رابعاً: إن معهد الدراسات الدبلوماسية الذي تشرفت برئاسته 1993-1995 هو مدرسة عصرية لفتح الآفاق أمام الدبلوماسي المصري ليطلع على الشؤون الداخلية والخارجية والقضايا الفكرية المعاصرة من أجل إعداد الدبلوماسي الحديث الذي يستطيع إلقاء محاضرةٍ أو المشاركة في حديث تلفزيوني، فالدبلوماسية قد تطورت ولم تعد هي فقط المراسم المعروفة والبرقيات التقليدية والعبارات الصماء، لقد أصبحت علماً وفناً لا يمكن الإقلال من قيمته .
* خامساً: إنني أدعو إلى تطعيم أجهزة الدولة المصرية بالخبرات الدبلوماسية لأننا نفقد كل عام عشرات من تلك الخبرات المتراكمة بالإحالة إلى التقاعد عند سن الستين وهي سن عطاءٍ بغير جدال يمكن لأصحابها أن يتقدموا بما لديهم من تجارب خارجية ويوظفوها في الشأن الداخلي سواء في البرلمان أو الحكم المحلي أو حتى الجامعات .
. . إنني لا أدافع عن بيتي الأول وهو (وزارة الخارجية) ولا عن جهازها الدبلوماسي ولكنني أزعم أن ذلك الجهاز المتميز مفترى عليه دائماً!

د . مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"