السودان وجنوبه: خصام ووئام

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

زار الرئيس السوداني عمر البشير جوبا عاصمة دولة الجنوب، ولقي مع الوفد المرافق احتفاء كبيراً من طرف سيلفا كير نائبه السابق والرئيس الحالي لدولة الجنوب التي انفصلت عن دولة السودان الأم قبل أقل من عامين . بين الجانبين خلافات كبيرة أمكن تسوية بعضها مثل تحديد الرسوم على نفط الجنوب الذي يتم تصديره عبر ميناء بور سودان، وتنظيم وجود الجنوبيين في الشمال والشماليين في الجنوب بتسهيل منح إقامات لهم على الجانبين، بينما بقيت النزاعات الحدودية قائمة على منطقة أبيي . وكانت التوترات في هذه المنطقة أدت إلى اشتباكات وتحشيد عسكري، وتم قرع طبول الحرب قبل نحو عام لكن الجانبين ارتضيا وساطة الاتحاد الإفريقي وتم نزع فتيل الحرب، وكان البشير حينها يستعد لزيارة جوبا عاصمة الدولة التي كانت جزءاً من الدولة التي يرأسها، لكن التوتر جمد الزيارة وها هي تتم هذه الأيام .

هناك شيء في سلوك الجانبين يشبه سلوك الأفراد الذين يتخاصمون بعد حياة طويلة مشتركة ويحتفظون مع ذلك بذكريات طيبة تجمعهما، وهذا مما يمكن وصفه بالوفاء للعِشرة .

في واقع الأمر، فإن الزيارة هذه للبشير لم تكن الأولى إلى جوبا بل هي الثانية، أما الزيارة الأولى فقد تمت في يوليو/ تموز 2011 للمشاركة باحتفالات انفصال / استقلال الجنوب عن الشمال وعن عموم السودان . وهي بادرة نادرة الحدوث في العالم العربي أن يشارك من وقع عليه الانفصال في احتفالات من يهللون للاستقلال عنه . وكانت السودان البلد الأول الذي يعترف بالدولة الجديدة التي اقتطعت منه في استفتاء شعبي لتقرير المصير . احترام إرادة الشعب أمر محمود ويستحق أفضل تنويه، وليت المسؤولين في الخرطوم كما في سائر العواصم العربية يمضون على النهج نفسه (نهج احترام الإرادة الشعبية) في معالجة التحديات الداخلية التي تضفي الشرعية على الحكم أو تعززها، وتضمن الاستقرار وتدرأ التدخلات الأجنبية وتقطع الطريق على الاستغلال الخارجي .

لقد حدث مثل هذا الانفصال المريح في العقود الماضية داخل دول مثل تشيكوسلوفاكيا السابقة التي انقسمت إلى تشيكيا وسلوفاكيا، بينما تنوء جزيرة قبرص بانقسامها بين قبارصة يونانيين وأتراك، كما تنوء الهند وباكستان بمخلفات انفصال الثانية عن الأولى، فيما يبدو الوضع أقل سوءاً في حالة بنغلادش التي انفصلت عن الباكستان والهند معاً! . . في حين دفعت كوسوفو ثمناً غالياً، وكذلك دول أخرى في الاتحاد السوفييتي السابق مع تضخم الذات القومية ورسوخ تراث الاستبداد .

كان كاتب هذه السطور ممن يؤمنون بأن استقلال جنوب السودان هو شرٌ لا بد منه بعد نحو ربع قرن من صراع دموي استنزف البلاد والعباد، وربما كان أفضل طريق وأقسى وسيلة لاكتشاف المشتركات، وإحيائها والسعي مجدداً إلى التكامل الطوعي الذي يحقق الفائدة للجانبين رغم تباعد بعض التوجهات السياسية الأساسية في النظامين القائمين، كالموقف من الدولة العبرية، وهو أمر يصعب التساهل به . غير أن حل المشكلات الثنائية من شأنه توفير أجواء من الثقة تسهل درء أية تأثيرات ضارة تهب من هذا الجانب أو ذاك . فالحاجة قائمة وضاغطة من أجل تحرير السودانيين من ربقة الفقر الذي فاقمه الصراع الطويل بين الجنوب والشمال . يستذكر المرء هنا كيف أن دولة عظمى مثل الصين حرصت ومازالت على الاستثمار في تايوان والتعامل اقتصادياً معها في الوقت الذي تطالب فيه الصين باستعادة هذا البلد! وكذلك في هونغ كونغ قبل عودة المقاطعة إليها من الوصاية البريطانية عليها، وقد أدى هاجس تعظيم التنمية والتفوق الاقتصادي إلى أن ترتقي الصين إلى ما ارتقت إليه .

الآن باستثناء أبيي لم تعد هناك مطالب جوهرية لدى كل من الفريقين تجاه الآخر، بما يوفر أجواء مواتية للتعاون بينهما، وليت العقل السوداني النبيه في الحكم وخارجه، يجد صيغة للتعاون والتطوير والاستثمار المشترك في المنطقة المتنازع عليها والتي تمتد مئات الكيلومترات، فتتحول الغصة إلى فرصة بدلاً من بقاء المشكلة معلقة إلى ما شاء الله، وتهدد في أية لحظة بعودة عقارب الساعة إلى الوراء . وحالة الوئام والتراضي حتى مع بقاء بعض المرارات وربما بعض الشكوك المتبادلة، على مستوى القيادتين، لا بد أن تترجم بتحسين مستوى حياة السودانيين في عموم السودان جنوبه وشماله وشرقه وغربه، ومنحهم مزيداً من الأمل، وتدارك ما فاتهم من فرص، لا أن يقتصر الأمر على مواقف سياسية خطابية وتقارب إعلامي أو حتى تفاهم فوقي .

من المفارقات أن الوضع السياسي لدولة الجنوب الناشئة منذ عامين والتي تحظى برعاية دولية (غربية)، يبدو أفضل من وضع الخرطوم، وذلك في ضوء مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسلم رئيس السودان، ومع بقاء مشكلة دارفور جرحاً ينزف، والإخفاق في إرساء شراكة وطنية مع القوى السياسية، وهو ما يملي على الخرطوم تحسين العلاقات مع الجار والشقيق الجنوبي، فيما يمكن للجنوب، إن شاء، المساعدة في حل مشكلات الشمال وبالذات معضلة دارفور من أجل توفير مجال حيوي اقتصادي له، وفي سبيل التفرغ للتنمية، ذلك أن الجنوب لا يقل فقراً وانخفاضاً في معدلات التنمية عن الشمال .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"