السيد «فلسطين»

01:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

}} هو مقدسي، عتيق، ومواطن أمريكي يعيش في منطقة «كامبريدج» ببوسطن، على بعد أمتار من جامعة هارفارد، ويختتم عمره التسعين في هذا العام.

مثّل في عطائه الفكري والتاريخي والمعرفي، العذاب الجماعي لشعبه، والشهادة على آلامه، وتعزيز ذاكرته، وأعطى معاناة شعبه حيزاً إنسانياً وحضارياً رحباً، ووفر بعمله التوثيقي مرجعية ثقة لقضية فلسطين، كقضية عادلة وإنسانية، وأعطى معنى لما يقوله ويكتبه عن فلسطين.

}} التقيت الدكتور وليد الخالدي لأول مرة في واشنطن دي سي، إثر الهجوم «الإسرائيلي» على لبنان، ووصول قادة جيش الاحتلال إلى بيروت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وقد جمعنا هذا الحدث في ورشة عصف ذهني، دعا إليها هشام شرابي، وشارك فيها كلوفيس مقصود وإدوارد سعيد ونصر عروري وإبراهيم أبولغد، وسميح فرسون وآخرون للنظر فيما يمكن عمله على الساحة الأمريكية.
}} سمعت وليد الخالدي، القادم من هارفارد، وهو يتحدث كمؤرخ وسياسي ويقدم إضافة نوعية وعملية لكيفية مواجهة النشاط الصهيوني بشكليه اليهودي المنظم والمسيحي المتصهين، المتحالف مع اليمين الجديد، الذي كان وقتها في حالة ولادة، والمؤيد لهذا الغزو والمبرر له همجيته وغروره.
}} بدا لي هذا المقدسي، بقامته الممشوقة وبأناقته وملامح وجهه الأرستقراطي، واحداً من اللوردات الإنجليز، وهذا اللاجئ من القدس، والذي وصل إلى ذروة المراتب الأكاديمية، في أهم الجامعات الأمريكية والبريطانية، ظل فاعلاً في المشهد السياسي والفكري والمعرفي، على مدى العقود الستة الماضية.

}} سمعته بعد ذلك، في محاضرات أمريكية، وهو يتحدث عن «رسالة بلفور» التي لم تزد كلماتها على ثمان وستين كلمة، إلا أن هذه الكلمات القليلة، كما يقول الخالدي «أوقعت آلاماً كبيرة ودماراً شديداً وحروباً لم تنته».

}} في عام ١٩١٧ عند صدور وعد بلفور، لم تزد نسبة اليهود في فلسطين على سبعة في المئة، وسيطرتهم على الأرض لم تزد على خمسة في المئة.

}} التقيته بعد ذلك عدة مرات، إحداها، حينما استضفته في منزلي، بعد انتهائه من محاضرته في المجمع الثقافي في أبوظبي في أواخر الثمانينات، وكانت ترافقه زوجته رشا سلام، شقيقة صائب سلام رئيس وزراء لبنان الأسبق.

}} في تلك الليلة تعلمت منه الكثير عن القدس، المدينة التي يحملها في قلبه، وعنده «لا فرح إن لم يكن فرح القدس»، و«لا عذاب إن لم يكن لها»، وأهداني كتابه التوثيقي «كي لا ننسى» عن القرى التي هدمها الاحتلال وأزالها من الوجود.
}} كما التقيته مؤخراً في واشنطن على مائدة غداء ضمت شخصيات عربية أمريكية ولمست تألق ذاكرته ومهاراته العالية في طرح الأسئلة، ورأيته في هذه المرة حزيناً بعد أن رحلت زوجته إلى دار البقاء.
}} عرفت من العاملين معه في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» أن الخالدي، هو أول من نشر خطة (داليت) وخطة (غيميل) اللتين توصفان بأنهما «الخطة الصهيونية الرئيسية لغزو فلسطين». أما مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي أسسها وليد الخالدي في عام ١٩٦٣، ومازال هو رئيسها وراعيها فإنها تمثل إحدى أهم تجسدات العقلانية العربية بما قدمته من نتاج باللغة العربية ولغات أجنبية أسهم في حفظ الذاكرة الفلسطينية وفي إبقاء قضية فلسطين حية في الوجدان، وقد أصدرت حتى الآن المئات من الكتب والوثائق والأبحاث، ومجلات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وحافظت على استقلاليتها وصمدت أمام تحديات الاستقطاب، وظلت صوتاً نقياً يتجه سهمها مباشرة إلى فلسطين.
}} نجح الخالدي في إدخال مقرر تعليمي في منهاج جامعة هارفارد عنوانه «القضية الفلسطينية» والصراع العربي «الإسرائيلي»، وألقى محاضرات لجماهير عريضة في أمريكا، وفي جامعاتها الكبرى ومراكز الأبحاث الشهيرة، وأجرى حوارات عديدة في محطات التلفزة العالمية، وأسهم في إنشاء «مركز التفاهم الإسلامي المسيحي» في جامعة جورج تاون في واشنطن، وكذلك اللجنة الأمريكية حول القدس في عام ١٩٩٥ وكرس جهداً كبيراً للمحافظة على (المكتبة الخالدية) في القدس، والواقعة على بعد أقل من مئة متر، من أحد أبواب الحرم القدسي، وكانت جدته قد أسست هذه المكتبة في عام ١٩٠٠ في منزل مملوكي يرجع تاريخه إلى القرن الثالث عشر، وتضم المكتبة أهم مجموعة فلسطينية من المخطوطات في العالم.
}} في عام ١٩٦٧ طلبت الحكومة العراقية وقتها من الخالدي الالتحاق بوفدها في الأمم المتحدة والذي كان يرأسه عدنان الباجه جي، وشارك الخالدي بصفته مستشاراً في شؤون القدس في مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي سبقت صدور قرار مجلس الأمن رقم ، وردّ الخالدي بقوة على أكاذيب «أبا إيبان» ممثل «إسرائيل» في الاجتماعات الأممية.
}} وفي عام ١٩٨٣ مثّل فلسطين في الوفد العربي الذي أرسلته قمة فاس العربية، لشرح القرارات الصادرة عن هذه القمة إلى الحكومة البريطانية، والتقى خلال الزيارة ملكة بريطانيا ورئيسة الوزراء (تاتشر)، كما عمل مستشاراً للوفد الأردني الفلسطيني المشترك إلى مؤتمر مدريد عام ١٩٩١.
}} في عام ١٩٥٦ استقال الخالدي من منصبه التعليمي في جامعة أكسفورد احتجاجاً على المشاركة البريطانية في العدوان الثلاثي على مصر والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت لمدة عشرين عاماً، وإثر نشوب الحرب الأهلية اللبنانية انتقل إلى جامعة هارفارد وبقي فيها أكثر من عشرين عاماً.
}} سألته ذات يوم، ونحن على مائدة غداء في جنيف، أثناء مشاركتنا في اجتماعات مؤسسة التعاون الخيرية، وكنا عضوين في مجلس أمنائها، وبصدد مناقشة إمكانية تأسيس مركز للبحوث في المؤسسة، سألته عن دراسته الجامعية حينما سمعته يتحدث عن المتصوفة في القدس، وفوجئت بأن دراسته كانت في التاريخ الإغريقي والروماني واللغة اللاتينية، وذكر أنه درس المتصوفة في نهاية القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومفهوم المتصوفة للقدس، وقد أهّلته هذه الدراسة للحصول على الماجستير في عام ١٩٥١.
}} الخالدي... الذي وهب حياته كلها لخدمة قضية فلسطين، وقضية فلسطين.. يستحق أن يسمى السيد «فلسطين».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"