الصهيونيّة المسيحيّة

00:26 صباحا
قراءة 6 دقائق
د. يوسف الحسن

}} جلست ذات يوم ربيعيّ، على بعد خطوات من مبنى الكونغرس الأمريكي «كابتول هيل»، شاخصاً في هذا المبنى المهيب، مستحضراً تاريخه وتشريعاته ورجاله وأدواره، وكانت الفكرة تدور في رأسي، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حول اختيار موضوع لأطروحة الدكتوراه.

}} خطر لي في تلك اللحظات، أن أختار الكونغرس، موضوعاً للأطروحة. وشاءت الصدفة أن ألتقي بالبروفيسور الأمريكي من أصل سوريّ، عبد العزيز سعيد، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بواشنطن والذي نصحني قائلاً: « دعك من حكاية الكونغرس وعليك بالبحث في الثقافة السياسية الأمريكيّة السائدة.
}} تفاعلت مع ملاحظته.. وأمضيت شهوراً منقّباً وباحثاً، عن عناصر هذه الفكرة - الأطروحة الجديدة.
}} أردت لأطروحتي شيئاً يتعلق بالسياسة الأمريكيّة تجاه القضايا العربيّة، وبخاصة القضيّة الفلسطينيّة، فساقتني قراءاتي، ومتابعاتي اليوميّة للسياسة الأمريكيّة إلى اكتشاف عامل خفيّ مهم، في هذه السياسة، لا يعنى به ساستنا ومفكرونا، ولعلهم قد استبدلوا به، عاملاً آخر (وهو عامل مهم على أية حال)، وأقصد هنا، مسألة (اللوبيّ) اليهوديّ، وأثره الكبير في السياسة الأمريكيّّة الشرق أوسطية.
}} وقد شاءت المصادفة أيضاً، أن أتعرّف في تلك الأيام إلى الحاخام والأكاديميّ اليهوديّ «إسرائيل شاحاك» المعاديّ للصهيونيّة، وكذلك المفكر اليهوديّ والكاتب (الفريد ليننتال) المعارض لقيام «إسرائيل» والمناهض للحركة الصهيونيّة منذ أربعينات القرن الماضي.
}} وقد أمضيت معهما عشرات الساعات من المناقشات، حول عوامل نهوض ونفوذ الحركة الصهيونيّة في أمريكا. وأسئلة حول جماعات الضغط اليهوديّة، وتحالفاتها مع مؤسسات وكنائس وقادة رأي عام في الساحة الأمريكيّة.
}} ورافقت الكاهن المقدسي (إبراهيم عياد 1911 - 2005)، أثناء زياراته لعدد من كنائس شيكاغو ونيويورك وواشنطن، وهي الزيارات التي نظمها مكتب جامعة الدول العربيّة في واشنطن، والذي كان يرأسه كلوفيس مقصود. وفي شيكاغو، تعرّفت إلى القسيس (دونالد واجنر) وهو من أبرز الشخصيّات الكنسيّة المعارضة للصهيونيّة.. وتواصلت معه أثناء بحثي في مصادر الأطروحة.
}} وقد بنيت بحثي على فرضيّة أساسيّة، تعتبر أن الحلقة المفقودة في دراسة الحركة الصهيونيّة، وفي جذر الانحياز الأمريكي إلى «إسرائيل» ، هي ما يسمونه في أمريكا ب(الصهيونيّة المسيحيّة)، والمتغلغلة في البيئة الثقافيّة والدينيّة والسياسية الأمريكيّة، والتي تعتبر أهم مصادر التأييد الدائم والداعم ل«إسرائيل».
}} وقد تابعت، هذه الحركة الأصوليّّة الصهيونيّة المسيحيّة، على مدى ثلاث سنوات، وتتبعت مؤتمراتها ونشاط إعلامها وفضائياتها وبرامجها الكنسيّة والأكاديميّة واللاهوتيّة، واطلعت على وثائقها ونشراتها وأدبياتها، وراجعت تفسيراتها وفهمها للعهد القديم (التوراة)، واكتشفت أن موضوع «إسرائيل»، هو الموضوع المحوريّ والمركزيّ في تعاليمها، وأن إنشاء «إسرائيل»، هو «تأكيد لصلاحية النبوءات التوراتيّة، وعلامة على اقتراب العودة الثانية للمسيح» ، كما تقول هذه الحركة.
}} فحصت عوامل معروفة يعزى إليها نجاح المشروع الصهيونيّ، واستمرار ما يلقاه من دعم أمريكيّ غير مشروط. ومن أهم هذه العوامل : المواهب السياسيّة والدبلوماسيّة الفذّة للقادة اليهود الأوائل، ودقة التنظيم وسعة انتشاره في العالم، ونفوذ جماعات الضغط اليهوديّة المسماة باللوبيّ اليهودي ، ومنظومة المال اليهودي الوفير والسخيّ، والصوت اليهوديّ الانتخابيّ النشط، والآلة الإعلاميّة النافذة وتوافق المصالح بين المشروع الصهيوني والسياسات الإمبرياليّة والاستعمار الجديد والقوى العالميّة المهيمنة.
}} لكن هذه العوامل وغيرها، على أهميتها البالغة، ليست القراءة الوحيدة لهذا النجاح الصهيونيّ، ولا تفسر وحدها المعاني الآتية:
}} معنى أن يكون الشعار الصهيونيّ المعروف (أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض) هو من صنع غير اليهود، وقد طرحه ساسة وقساوسة بريطانيّون على مؤتمر لندن عام 1840، أي قبل نصف قرن من ولادة الحركة الصهيونيّة اليهوديّة السياسيّة.
}} معنى أن تُنشئ أموال غير يهودية، أولى مستوطنات يهوديّة في فلسطين، في منتصف القرن التاسع عشر، وأن يتبارى نبلاء بريطانيّون ومبشّرون غربيّون، وعائلات ثريّة مثل عائلة (روكفلر) المسيحيّة، في دعم الاستيطان وتشجيعه.
}} معنى أن يؤسس غير اليهود، أول جماعة ضغط (لوبي) في أمريكا، تسمى (البعثة العبريّة نيابة عن «إسرائيل»)، لصالح إقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
}} ومعنى موافقة الكونغرس في عام 1922، على وعد بلفور، وأعضاء الكونغرس، يستشهدون بنصوص توراتيّة تؤيد، «إعطاء اليهود الفرصة لإعادة تأسيس وطن على الأرض اليهوديّة القديمة». وكان كل ذلك يجري في وقت لا حاجة فيه للكونغرس أو الرئيس، للمال اليهوديّ، أو الأصوات اليهوديّة، وفي غياب «اللوبي» اليهوديّ الذي لم يتأسس إلاّ في عام 1954 تحت اسم (إيباك).
}} معنى أن يقول الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان، وهو يعترف بدولة «إسرائيل»، حتى قبل أن تطلب منه ذلك حكومة «إسرائيل» المؤقتة بشكل رسمي، يقول: «أنا قورش»، أي الملك الفارسيّ الذي أعاد «يهود السبيّ» من بابل إلى فلسطين.
}} معنى وعد بلفور، الذي يعتبر أول اعتراف دوليّ بالصهيونيّة السياسيّة، وبمشروعها لإقامة دولة لليهود في فلسطين.
ومن أسف، فإنه لا أحد من أصحاب الفكر والسياسة في عالمنا العربيّ، اقترب من مسألة الخلفيّة الدينيّة المؤمنة بتأويلات توراتيّة عند بلفور وبخاصة مسألة «شعب الله المختار»، و«حقه في أرض الميعاد»، وقد تربى بلفور في طفولته ونشأ في إحدى الكنائس الإنجيليّة الاسكتلنديّة، وكان يعلن صراحة أنه «صهيونيّ».
}} وهذا يؤكد التحيّز الواضح والجريء ل«إسرائيل» ولسياساتها الاحتلاليّة والتوسعيّة والعنصريّة، حيث يتقدم هذا التحيّز على كل مسائل حقوق الإنسان، والاعتبارات الاقتصاديّة والسياسيّة، حتى إن دولاً غربيّة مستعدة للذهاب إلى حافة الحرب، إذا لزم الأمر، للدفاع عن «إسرائيل» وأمنها، رغم أنّها، أحد أثقل الأعباء على عاتق دافع الضرائب الأمريكي.
}} وأكثر من ذلك، قد يعجز الباحث المحايد، عن تفسير ما يرد في الخطاب السياسي، لنخب وقيادات عسكريّة ومدنيّة ودينيّة كثيرة في أمريكا وغيرها، من مصطلحات متكررة مؤداها «الالتزام الأدبيّ والأخلاقيّ أو التراث المسيحيّ - اليهوديّ المشترك» مع «إسرائيل»، وليس مع أي دولة أخرى في العالم، ومهما بلغت درجة العلاقات معها.
}} ولنتذكر حديث الرئيس الأسبق كارتر أمام الكنيست في مارس/‏آذار 1979 ، وهو يقول: «لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين، وجسدوا هذا الإيمان، بأنّ علاقات أمريكا مع «إسرائيل» هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة، لأنّها متجذّرة في ضمير وأخلاق ومعتقدات وثقافة الشعب الأمريكي، لقد شكّل أمريكا و«إسرائيل»، مهاجرون طليعيون، ونحن معاً نتقاسم تراث التوراة».
}} كما نتذكر ما قاله الرئيس الأسبق بيل كلينتون، أثناء زيارة له إلى «إسرائيل» في فترة حكم نتنياهو الأولى: «إنّ قسيساً ذكر لي، قبل أن أتولى الرئاسة في البيت الأبيض، أنّه سيكون لي شأن عظيم، وسيغفر اللّه لي كل خطاياي، إلا الخطايا التي أرتكبها تجاه «إسرائيل»».
.........
.........
}} هذه نماذج قليلة، اخترتها بحثاً عن تفسير لها في أطروحتي. ولعلّ هذا المشهد الأصوليّ الخفيّ أو المهمّش في تفسير التحيّز، هو العنصر أو الحلقة المفقودة في فهمنا، وفي تعاملنا المعاق مع أمريكا ومع دول غربيّة أخرى، والخاص بالقضيّة الفلسطينيّة أولاً وبقضايانا العربيّة الأخرى من اقتصاد وسياسة وتحالفات.. إلخ.
}} وعت «إسرائيل» تماماً، مدى أهميّة المنظمات الصهيونيّة المسيحيّة لدعم سياساتها ومشروعها الصهيوني، ولاسيما بعد أن صارت هذه المنظمات، تشكّل قوة عدديّة ضخمة من الأتباع، وقوة مادية ونفوذاً واسعاً في المخيال الجمعي، والثقافة السائدة في المجتمع الأمريكي، وعملت «إسرائيل» وقواها المنظمة في أمريكا، على التحالف والتنسيق مع هذه الحركة الصهيونيّة المسيحيّة، ويقدر عدد المؤمنين والأتباع، لهذه الكنائس البروتستانتيّة الأصوليّة، بأكثر من سبعين مليوناً، وهم الأكثر ثراءً وانتشاراً وتأثيراً في الحياة السياسيّة الأمريكيّة.. وتتفاخر بعض هذه الكنائس حينما تصف نفسها بأنّها «مسيحيّة صهيونيّة» ولا تتردد، بإبراز دعاوى زائفة حول اعتبار يهود اليوم هم حفدة لبني إسرائيل القدامى.. وتقدّم الدين المسيحيّ وتفسره وكأنّه يُعظّم العنف ويقدسه.
}} في أطروحة الدكتوراه.. الكثير من التفاصيل المذهلة، حول منظمات هذه الحركة المسيحيّة المتصهينة، والتي تنشط حتى خارج الوطن الأمريكي، في أوروبا وجنوب إفريقيا و«إسرائيل» نفسها.
}} ومن أسف، فإنّ دوائر التفكر والقرار في عالمنا العربي بعامة ما زالت غائبة عن فهم هذه الحلقة المهمة والخطيرة.
وما زالت الكنائس العربيّة الشرقيّة، مغيّبة عن التعامل مع هذا الموضوع، وهي الجهات المؤهلة والقادرة على فضح هذه الاتجاهات المشوّهة والمغشوشة والمسيئة لحلم المسيحيّة الحقّة، ولثوابتها الأصيلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"