العائشون في وهم الماضي

03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

جماعات الإسلام السياسي يتلاقون مع أردوغان وتابعيه في إرادتهم لإعادة دولة الخلافة، وإرادته في استعادة الإمبراطورية المندثرة، لذا فتح لهم أبواب بلاده.
يريدون أن يعيدوا عجلة الزمن إلى الوراء، وأن يأخذونا معهم إلى الماضي، غير مدركين أنه ولّى ولن يعود أو يستعاد ثانية، إلا عبر خيال مبدع يسعى لاستعادة ما فات ليحذر ويصرخ في وجه من لا يستوعبون حركة الزمن، أو عبر أضغاث أحلام سياسي يتوهم القدرة على استعادة أمجاد أجداد ماتوا، وما زالت المجازر التي ارتكبوها حية في الأذهان، ولن تمحوها أي عوامل تعرية زمنية، أو عبر خيالات أشخاص أصابهم داء توقف النمو وغياب الإدراك والوعي، ارتأوا استغلال السذج للعودة إلى الوراء باسم الدين، رغم أن كل الديانات السماوية بشّرتنا بأن التطور ضرورة كي تواصل البشرية المسيرة التي أرادها لها الله عز وجل.
من المهم أن ندرس الماضي ونتأمل محطاته ومنعطفاته، ليس لأجل العودة إليه والاستغراق فيه، ولكن بهدف الاستفادة من دروسه ونحن نخطط للمستقبل، بحثاً عن دور مهم فيه أو مكان ومكانة مميزة.
من حقك كفرد أن تعيش في الماضي، وأن تعتزل الحياة العصرية، وترفض كل مفرداتها التقنية والحياتية، وأن تتخذ لك كوخاً في مكان قصيّ تعيش فيه بأدوات الماضي، إن وجدتها، من دون أن تنال من حقوق الآخرين أو تفرض على أحد أن يرافقك، أما أن يفرض بعضهم على الآخرين العودة للماضي، مستخدماً أساليب الترهيب وإراقة الدماء، فهو ما لن يكون مقبولًا إلا ممن أصابهم ذات المرض.
العالم كله ينظر إلى المستقبل، ويتسابق للتمكن من أدواته والتأثير في إنسانه، باستثناء المرتدين عن قانون التطور، والموهومين بأن المجد في الماضي، وأن العودة إليه ستكفل لهم تحقيق أوهامهم السلطوية والسلطانية. ويأتي على رأس هؤلاء جماعات الإسلام السياسي وإمامتهم في الفكر الرجعي «الإخوان المسلمين»، ومرشدهم الفعلي رجب طيب أردوغان، وتابعوه ممن يمولونه ويدعمونه لاستعادة إمبراطورية جده العثماني التي حكمت وتحكمت فينا قروناً، لتترك لنا تراثاً من الجهل والتخلف والتواكل والخيبة، بعد أن عزلتنا ثقافياً وعلمياً وسياسياً واقتصادياً، واتبعت سياسة «فرّق تسد» بين الولايات والولاة والقادة والمناطق والطوائف، لتحول المنطقة إلى كيانات متقوقعة داخل ذاتها ولا علاقة بينها وبين ما يحدث في العالم من تطور وإنجاز.
السلطان الجديد من حقه أن يتفاخر بأجداده وما نشروه من تخلف لن يغفره التاريخ، وما ارتكبوه من مجازر تملأ صفحات الكتب، إنما ليس من حقه أن يتقمص شخصية أرطغرل أو ولده عثمان، ويعيث في دول الجوار وغير الجوار إفساداً، ويستحل في شمال سوريا استباحة الدماء وهتك الأعراض، ويستغل لاجئين عزلاً للسيطرة على أراضٍ عربية، ولابتزاز جيران أوروبيين.
في جغرافيا اليوم لا جغرافيا إمبراطورية الدم والنار البائدة، مازال أردوغان يصر على حقه في التدخل في الشأن الليبي، باعتبار أن ليبيا من «إرث أجداده» الذي يحق له أن يمارس فيه ما مارسه العثمانيون الأوائل من نشر للخراب والتخلف والجهل.
يحق لأردوغان أن يشرف بنفسه على إنتاج مسلسل مثل «قيامة أرطغرل»؛ ليوهم أبناء جلدته بإمبراطورية القتل والإبادة ونشر الفساد، ويخدع تابعيه من حكام غفت عيونهم وأغلقت قلوبهم عما ارتكبه العثماني القديم في حق هذه الأمة، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مروّجين لأوهام العثماني الجديد.
جماعات الإسلام السياسي يتلاقون مع أردوغان وتابعيه في إرادتهم لإعادة دولة الخلافة، وإرادته في استعادة الإمبراطورية المندثرة؛ لذا فتح لهم أبواب بلاده، ليأتوا إليها من أربع جهات الدنيا، وقدم لهم كل التسهيلات؛ لتحقيق الأوهام الموحدة بإراقة الدماء في بقاع مختلفة، ونشر الخراب والدمار حول العالم.
تخيلوا هذا العالم، وقد عاد إلى الماضي، وتمكنت منه إمبراطوريات عثمانية ورومانية وفارسية وبريطانية، وأخريات ممن قتلوا وأبادوا ونهبوا ثروات دول وشعوب؟ من المؤكد أنه سيغرق في التخلف، وسيعود بنا إلى الجهالة، وهو ما جسدته بعض الأعمال الفنية التي قدمت صورة عن شكل الحياة، افتراضياً، حال العودة للماضي ومن أهمها مسرحية «أهلاً يا بكوات» للمبدع لينين الرملي، شفاه الله وعافاه، والمبدع المخرج عصام السيد، حيث التخلف والرجعية والاستبداد والانغلاق الفكري. وليت صناع الإبداع يكثفون من هذه النوعية؛ لتوعية من يضللونهم باسم استعادة الخلافة.
مَنْ يُرِد العودة للماضي فليذهبْ وليعُدْ للتنقل بالحمير والجمال، ويتركنا في حاضرنا نؤهل أبناءنا للمستقبل فكراً ووعياً وحياةً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"