العالم الجديد رأسمالي

03:44 صباحا
قراءة 5 دقائق

سقوط الاتحاد السوفييتي، أنهى حقبة الصراع بين معسكرين رأسمالي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية واشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وبهذا الانهيار للمعسكر الشرقي انتهت حقبة الحرب الباردة، وأصبحت روسيا الاتحادية جزءاً من المنظومة الجديدة، وتجاوزت كل محالات الهيمنة التي سعت إليها الولايات المتحدة بضمها وجعلها ملحقاً تابعاً في الحوش الأمريكي الكبير، وباءت كل التحليلات التي توقعت ذلك بالفشل، وأصبح العالم رأسمالياً صرفاً وانتهى الصراع بين معسكر رأسمالي وآخر اشتراكي، بل إن الصراع القائم هو بين رأسماليات جديدة، تسعى كل منها إلى إقامة منظومات خاصة بها بأشكال غير التي كانت تقام عليها التحالفات بين المعسكرين، وتبدلت كثيراً من المعادلات والمفاهيم التي كانت تحكم العلاقات الدولية، وفرض العامل الاقتصادي هيمنته على سياسات هذه الدول واستراتيجيتها لتجاوز التحديات والأزمات المالية التي مرت بها معظم دول العالم .

تحولات كبيرة شهدها العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فروسيا على غير ما توقع المحللون، وأوروبا لم تعد جزءاً من الثالوث، واليابان تتهمش، والصين تفرض إيقاعاً جديداً يمثل الخطر الأول على الولايات المتحدة .

الولايات المتحدة فشلت بفرض هيمنتها من جانب واحد، وبتأسيس عالم أحادي القطب، ورمت الأزمة المالية بظلالها على الوضع العالمي الجديد، وأثّرت في القرار الأمريكي بصورة جلية وواضحة لا لبس فيها، وسعت إدارة أوباما في فترته الأولى تجاوز تلك الأزمة، عبر الاستمرار في سياسة بوش الابن، إلا أنها لم تنجح في ما سعت إليه، ولم تعد أمريكا هي أمريكا التي عرفها العالم واستقرت في أذهان الناس، ما دفع بأوباما إلى اختيار فريق عمل جديد يمتلك رؤية مختلفة من أجل إعداد المسرح لاستراتيجية جديدة، ستطبع بطابع تشاك هاغل وزير الدفاع وجون كيري وزير الخارجية العضوين الجديدين في إدارة أوباما، لمواجهة عالم يشهد تحولاً مطرداً لقوة مبعثرة غير ممركزة نحو الشرق والجنوب، بمساعدة أعضاء جدد للعب أدوار ما في فترات ما، وفق خطط خفض الإنفاق في الموازنة العامة للولايات المتحدة التي تواجة مشكلات عديدة، والاعتماد على مشاطرة أكبر في العبء من جانب حلفاء وشركاء أمريكا، ولقد عمل هاغل وكيري في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ مع أوباما ونائبه بايدن وحارب كلا الرجلين، وجرحا في فيتنام فهما يدركان كلفة التدخلات العسكرية والقتال .

انطلاقاً من هذه الاستراتيجية سيلعب الرجلان بحكم صلاتهما القوية بأوروبا ومناطق نفوذ الولايات المتحدة، دوراً باستغلال الدبلوماسية إلى أقصى حد قبل اللجوء إلى القوة، وبمعالجة ما وقعت فيه استراتيجية الولايات المتحدة في فترة أوباما الأولى، من خلال الحرب في أفغانستان والعراق، التي انتهت إحداهما والأخرى على وشك أن تنتهي ما سيقلل من الوجود العسكري الخارجي، وهو ما يخدم سياسة خفض الإنفاق الذى تسعى إليه الإدارة الأمريكية . بمعنى أن الولايات المتحدة عليها مواجهة عالم أكثر خطورة بموارد أمنية وطنية أقل، أو إيجاد شراكات دولية قوية تتولى بعض المهام الضرورية .

ويضع بعض الباحثين والمفكرين تصورات تعرف بالموازنة من خارج المجال الإقليمي وهو مفهوم يعتمد على استخدام قوة عظمى قوى إقليمية مفضلة لديها، للحد من تصاعد قوى معادية، وهذه السياسة ربما يترتب عليها فك الارتباط مع الولايات المتحدة، بل احتمال انهيار تحالفاتها، ومن هنا تسعى الإدارة الأمريكية إلى تمكين شركائها الدوليين من العمل معها وتولي الدور القيادي في مناطقهم، واتضح ذلك جلياً إبان فترة إدراة كلينتون حيث ازداد عدد الشركاء في الحفاظ على الاستقرار العالمي، وتولي إدراة أوباما الحالية أهمية خاصة لإنعاش الشركات الدفاعية، وبخاصة مع أوروبا وآسيا والديمقراطيات الصاعدة في البرازيل والهند وإندونيسيا، إلى جانب المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي .

باختصار، يشهد العالم مخاضاً من أجل تشكيل عالم جديد لم يتبلور بعد، مختلف عن عالم الحرب الباردة وعالم الأحادية والقطبية بل والعالم القديم، ولن يكون عالم الرأسمالية ذاتها .

أمريكا تراجعت عن سياساتها الأحادية القطبية، وباتت تتكيف مع وضعها الجديد، ولم تعد قادرة على أن تكون زعيمة العالم، واقتنعت بأن تكون قوة عظمى بين قوى متعددة، وتسعى إلى حل مشكلاتها المالية، والحد من تداعيات تصاعد الصين القوي، الذي بات شاغلها الأول، ووضع الخطط اللازمة من منظور الحماية من الصين وتعزيز ترتيبات التجارة الحرة مع آسيا وأوروبا من منطلق استراتيجية الشراكة إلى الأمام ودعم الروابط السياسية مع الشركاء الذين يتشاطرون الأفكار، وتقوية اقتصاداتهم، واستمرار التموضع في الأمام، دونما انسحاب، بهدف تمكين الشركاء من القيام بمسؤولياتهم بنجاح يوفي بتحقيق الأهداف . أما روسيا فتتقدم، وباتت تتصرف كقوة تريد حصتها في تقاسم العالم الجديد، مستفيدة من ما تمر به الولايات المتحدة من أزمة مالية خانقة ومشكلات اقتصادية، سعياً منها لفرض إيقاع جديد يذكّر بأجواء الحرب الباردة ويعبّر عن تنافس قوي لبسط السيطرة والاستحواذ على الأسواق وتحقيق مكاسب مالية . روسيا ليست الاتحاد السوفييتي الذي دعم حركات التحرر من أجل إضعاف نفوذ المعسكر الغربي لكي تنتصر الاشتراكية، وإنما روسيا الجديدة المتطلعة لكسب الأسواق وإقامة تكتلات جديدة واعدة كتجمع مجموعة البريكس وتشكيل محور عالمي يرث الثالوث القديم أمريكا وأوروبا واليابان .

الصين من جانبها تطرح نفسها قوة منافسة على المستوى السياسي، لكن قوتها تكمن في التنافس الاقتصادي، حيث تستحوذ على كتلة نقدية تصل إلى 3 تريليونات دولار وتوظف في سندات الخزينة بمبلغ يصل إلى 1،5 تريليون دولار، وسلعها تغزو العالم بما يجعلها قوة تجارية من الدرجة الأولى، وتسعى إلى امتلاك قوة عسكرية هائلة، تشكل خطراً على أمريكا .

بينما تعاني اليابان أزمات حادة، ومشكلات مالية أضعفت من قوتها الصاعدة، وهمّشت من مكانتها، فيما تواجه الدول الأوروبية بمديونيات قد تدفع بها إلى الانهيار، باستثناء ألمانيا، في حين يتأرجح الوضع في فرنسا ويبدو في تناقض مع مطامح ألمانيا وتخلي أمريكا وطموح روسيا .

عالم مضطرب لم يتشكل بعد لكن يبدو واضحاً أن أمريكا لم تعد أمريكا التي يعرفها العالم، وأن الصورة النمطية على أنها طرف في الحرب الباردة وقائدة المعسكر الرأسمالي والطرف الوحيد المسيطر في تفاصيل العالم، قد تغيرت، ولم تعد تلك التي كانت في أذهان الناس، فأزمة 2008 قلبت الوضع كله، وأدت إلى تراجع أمريكا، وجعلها تعيد رسم تحالفاتها وتموضعها العالمي، وباتت تولي اهتماماً أكبر بمنطقة الباسيفيك آسيا - المحيط الهندي .

مما سبق نجد أن العالم الجديد لم يتشكل بعد، ومعظم الصراعات تتم في الخفاء، وتسعى كل دولة إلى الحفاظ على وضعها القوي القائم أو تدعيم وضع حلفائها على حساب الآخر، كما أن تراجع أمريكا لا يعني انسحاباً شاملاً وسريعاً، بقدر ما شكلت فيه منطقة الباسيفيك محور ومحدد السياسات والأولويات الأمريكية، مقابل تراجع الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط إلى مرتبات الدرجة الثالثة أو الرابعة .

وهو ما يفرض التفكير في الدور الجديد لأمريكا في الشرق الأوسط، وتلمس ما تقوم به قوى أخرى، وسيظل العالم يبحث عن مخارج وحلول لأزماته الاقتصادية، وسط هذه الهزات المتكررة التي يعانيها، ولن تتمكن أي قوة الهيمنة منه على العالم من جديد، بقدر ما تفتح مجالات لصراعات كبيرة وأزمات عميقة، قد تؤدي إلى فتح أفق لعالم جديد أكثر أمناً وعدلاً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"