العرب وإشكالية الحرية

03:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

تتباين مستويات الوعي بالحرية من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، حتى وإن كانت الخطوط العامة لمعانيها ودلالاتها، متقاربة مهما تباعدت الأزمنة واختلفت الأمكنة . ومن الواضح في كل الأحوال أن علاقة الإنسان العربي بمفهوم الحرية، لم تكن دائماً على أحسن ما يرام، فمن الدولة الشرقية الاستبدادية، مروراً بموجات الاستعمار ووصولاً إلى الدولة الوطنية المتسلطة؛ ظلت الحرية في وعي هذا الإنسان ملتبسة وغامضة، ووصلت علاقته بها إلى مرحلة متقدمة من السوء عندما كان الخطاب الرسمي يربط كل محاولة أو حركة تطالب بالحرية والتعددية، بالعمالة للخارج أو للاستعمار . لقد ارتبطت الحرية في وعينا بالأبوية، من منطلق أن الأفراد ليسوا في مستوى يؤهلهم إلى التمييز بين الأشياء، وليست لهم القدرة بالتالي على اختيار ما يرونه مناسباً . ومن ثمّ فإنه من الضرورة بمكان، بالنسبة إلى مروجي هذا الوعي الزائف، أن تكون هناك جهة وصيّة توجه هؤلاء الأفراد إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم .

إن علاقتنا بالحرية تتسم بالتخبط والارتجالية، وعادة ما تفتقر إلى التوازن المطلوب ما بين حدّي الإفراط والتفريط، وبالتالي فإن انعدام تمثل عقلاني لدلالات الحرية يجعلها تلامس وعينا من دون أن تسهم في ترسيخ ثقافة تتعلق باحترام الحريات الفردية والجماعية، والإيمان وفقاً لما تقدم، أن حريتي الشخصية يجب أن تقف عند حدود حرية الآخرين . والواقع أننا بدأنا ندرك منذ تفجّر الثورات العربية أن الحرية التي نطالب بها تتسم بالكثير من الانتقائية، ولا تشترك في الكثير من عناصرها التطبيقية مع الحرية كما هي ممارسة في الدول التي تطورت لديها التجربة التعددية والديمقراطية .

لقد اتضح بعد مدة قصيرة من نجاح الثورة في دول الربيع العربي، أننا مازلنا بعيدين عن تحقيق مبادئ الحرية وفق دلالاتها الناضجة، فالحرية كما أشار إلى ذلك المفكر البريطاني إزايا برلين تنقسم إلى نمطين رئيسين هما الحرية السلبية والحرية الإيجابية . وعليه فإنه وبالرغم من تفاؤلنا بالحراك الشعبي وأملنا في أن يفضي إلى تحقيق ممارسة حقيقية وشاملة لمعاني الحرية، من السهل أن نلاحظ أننا مازلنا بعيدين عن هذا السقف المرتفع الذي تمثله الحرية، فأقصى ما بدأ يتحقق عندنا هو الحرية بمعناها السلبي، وهي الحرية التي تعني عدم التعرض إلى تطلعاتنا من قبل النخبة الحاكمة، وبالتالي فإن هذا النمط من الحرية يصبح متحققاً عندما تسمح السلطة لمعارضيها، القيام بالتعبير عن آرائهم من دون التعرّض للقمع أو للملاحقة، وتتيح لهم التنقل بكل حرية داخل تراب الدولة، إلى آخر ذلك من قائمة الحقوق الطبيعية المفتوحة التي لا تتدخل الدول الحديثة التي تحترم حقوق الإنسان، من أجل منعها أو حرمان مواطنيها من الاستفادة من مزاياها .

أما الحرية الإيجابية التي لم يستطع الربيع العربي، حتى الآن، أن يصل إلى تحقيقها بسبب ارتباطها بمسار معقد، فإن الثورات العربية ستحتاج من أجل بلوغها، إلى مزيد من العمل على مستويات عديدة، حتى تنتقل الدول القطرية من وضع الأجهزة البيروقراطية المتضخمة إلى مقام دول المؤسسات ذات التمثيل الحقيقي لكل مكونات المجتمع؛ لأن الحرية الإيجابية تفترض في دلالاتها العميقة، وجود سلطة فعل حقيقية يمارسها الشعب بشكل مباشر، وتعني هذه السلطة القدرة على مراقبة القرارات العامة، بل حتى المشاركة في اتخاذها، وتمثل بذلك تجسيداً حقيقياً لمقولة حكم الشعب نفسه بنفسه .

والواقع أنه وبالرغم من هذا القدر الكبير من التفاؤل الذي أوجده الربيع العربي لدى فئات عريضة من المجتمع المدني في الكثير من البلدان العربية، مازلنا بعيدين إلى حد كبير، عن تلك المرحلة التي نكون فيها قادرين على ترجمة أبعاد الحرية الإيجابية على أرض الواقع، خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن الفرق بين مفهومي الحرية ليس مجرد فرق في الدرجة أو السلم المعياري، ولكنه فرق في مستوى التطور والنضج الحضاري .

والحرية فضلاً عن كل ذلك، ليست مجرد تحرر من القهر والعبودية أو القدرة الفردية على الاختيار، ولا هي فقط، تلك الدرجة من الاستقلالية التي يمتلكها الفرد تجاه المجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، إنها تكمن في القدرة على فعل كل ما لا يسيء إلى الآخرين، وألا يكون الإنسان خاضعاً إلا للقوانين . وعليه فإن تعريف الحرية سيظل في كل الأحوال مفتوحاً على مصراعيه من أجل أن يستوعب كل تطلعات الإنسان وأحلامه . وحتى الإكراهات والضغوطات التي يتعرض لها الكائن ستكون مقبولة لديه، بشرط أن يتم ذلك انطلاقاً من توافق اجتماعي عام، ووفقاً لقوانين صادرة عن هيئات تمثيلية .

ويمكن القول، إنه وبصرف النظر عن المعنى الذي نتمثل من خلاله الحرية، فإن هذه الأخيرة لن تكون متوافقة مع التقسيمات الطائفية والمناطقية أو الجهوية التي يتم انطلاقاً منها اختيار مؤسسات الدولة في الكثير من الدول العربية . وبالتالي فإنه لا يكفي أن نستبشر بما حققه الربيع العربي من حرية بمعناها السلبي، بل علينا أن نطوّر من مستوى حضور وآليات اشتغال المجتمع المدني حتى نتمكن من بلوغ أهداف الحرية الإيجابية التي تضمن الاستقرار الحقيقي داخل المجتمع؛ لأنها تجعل جميع أفراده مقتنعين بأنهم يصنعون مستقبلهم بأيديهم، وأنه لا وجود لسلطة عليا أو مفارقة، تمنح لنفسها الحق في توجيه إرادة الآخرين وصولاً إلى إخضاعها والسيطرة عليها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"