العنصرية والصراع العرقي في أمريكا

03:14 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

تعرف الولايات المتحدة الأمريكية مع اقتراب كل موعد انتخابي حاسم مثل الانتخابات الرئاسية، تصاعداً غير مسبوق في وتيرة الصراع بين القوى السياسية الكبرى على خلفية الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والعرقية بين مكونات المجتمع الأمريكي، حيث يلجأ المرشحون من الحزبين الرئيسيين إلى المزايدة في هذه الملفات الحساسة. ويتوقع المتابعون للشأن الأمريكي أن يأخذ الجانب العرقي، خلال هذه السنة، حيزاً غير مسبوق على خلفية تنامي مشاعر العنصرية والكراهية ضد السود في معظم الولايات الأمريكية، التي شهدت احتجاجات قوية ضد العنف الذي تمارسه الشرطة الأمريكية ضد الشبان من ذوي البشرة السوداء؛ بموازاة تزايد التوجهات والنزعات الاستقلالية لدى الكثير من الولايات ذات الأغلبية البيضاء، التي ترفض تدخل الدولة المركزية في شؤونها المحلية، وبخاصة في فترة حكم أوباما الذي أعاد فتح باب جراح الهويات العرقية على مصراعيه.
ويمكن أن نلاحظ أنه وبعد عقود من الصراع من أجل القضاء على الميز العنصري في أمريكا، لا تزال قيم المساواة بين أفراد الشعب الأمريكي بعيدة عن التجسيد، حيث إنه وخلافاً لكل التوقعات، فإن وتيرة الصراع العرقي قد تضاعفت في فترة حكم أول رئيس أسود؛ إذ تشير الإحصاءات إلى أن احتمالات أن يدخل المواطنون السود، المنحدرون من الفئات الشعبية، إلى السجن مرة واحدة على الأقل في حياتهم، تتجاوز نسبة 60 في المئة. ولا تزال تتداول في هذا السياق المأزوم، مواقع التواصل الاجتماعي، صور الشاب الأعزل الذي قتله شرطي أبيض لمجرد أنه يحمل بشرة داكنة اللون. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الشابة الجامعية ساندرا، التي جرى اعتقالها بطريقة وحشية في تكساس، إلى غير ذلك من حالات التجاوز والتعسف الأمني التي يصعب حصرها، والتي تجعل من أمريكا دولة تحتل مراتب «ريادية» في نسبة المساجين في العالم.
وتشير التقارير الإعلامية إلى أن موجة العنصرية في الولايات المتحدة قد تضاعفت خلال فترة حكم باراك أوباما، ويتحدث الكثيرون عن عودة أجواء التوتر العرقي التي سادت في مرحلة الستينات من القرن الماضي، والتي ميّزتها مواجهات عرقية كبيرة؛ ويتزامن كل ذلك مع عودة غير مسبوقة للسلوكات العنصرية في الولايات الجنوبية التي رفعت بعضها العلم الانفصالي لمنطقة الجنوب، الذي يرمز لمرحلة العبودية التي حاربتها الأمة الأمريكية خلال الحرب الأهلية المدمرة. وما يزيد الأوضاع تعقيداً هو أنه أضحى من الممكن بالنسبة للولايات الجنوبية خلال السنتين الأخيرتين، القيام بتعديلات في الإجراءات والتدابير القانونية المتعلقة بالتشريعات الانتخابية من دون استشارة مؤسسات الدولة المركزية في واشنطن، الأمر الذي يعني حرمان الكثير من الناخبين السود والملونين من حقهم في الانتخاب لأتفه الأسباب.
ونستطيع أن نسجّل في هذا السياق أن أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء تزايد نسبة العنصرية والصراع العرقي في الولايات المتحدة الأمريكية، تعود إلى التغيّرات الديموغرافية والسكانية الكبيرة التي تعرفها البلاد، نتيجة لتراجع نسبة السكان البيض، وازدياد نسبة المهاجرين والأقليات اللاتينية والآسيوية والإفريقية؛ الأمر الذي بات يؤثر بشكل حاسم في المعادلتين السكانية والانتخابية في الولايات المتحدة، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن نسبة الشباب الملونين ستصل بحلول سنة 2035 إلى 55 في المئة من مجموع الشباب الأمريكي، ولن يكون بالإمكان التحدث حينها، عن الأقليات العرقية في مواجهة الأغلبية البيضاء، وسينهار مع هذا الوضع الجديد حلم الكثير من البيض من أجل تأسيس دولة بروتستانتية صافية خاصة بالبيض، لاسيما وأن قسماً معتبراً من جيل الشبان البيض لا يحملون التصورات النمطية المنغلقة نفسها التي كان يحملها آباؤهم تجاه العرقيات الأخرى، نتيجة للاختلاط في الجامعات وأماكن العمل مع العرقيات والثقافات والأجناس الأخرى.
وفي محاولة منه من أجل تجاوز هذه الوضعية الاستثنائية، يسعى المعسكر الديمقراطي إلى التركيز، في خطاباته وشعاراته الانتخابية المعلقة برئاسيات 2016، على ضرورة تجاوز حالة الاستقطاب العرقي التي تعرفها الولايات المتحدة، والتي يمكن أن تفضي إلى مزيد من العنف والانقسام داخل المجتمع. وقد أشار المرشحون الديمقراطيون في سياق متصل، إلى ضرورة محاربة العنصرية والتمييز المؤسساتي الذي مازال مهيمناً على النظام القضائي وعلى المؤسسات العقابية في معظم الولايات الأمريكية. وذهبت هيلاري كلنتون إلى حد التأكيد أن الفوارق الاجتماعية والاقتصادية تمثل أعراضاً مرضية تشير إلى تفشي العنصرية التي ما زالت تنخر جسد المجتمع، وتحدثت بكل وضوح عن العنف الذي تمارسه الشرطة ضد الأمريكيين السود، وعن الظروف التي تجري فيها إدانتهم في أروقة العدالة الأمريكية، كما اتهمت كلينتون خصومها من الجمهوريين، بالعمل على حرمان الشباب والأقليات العرقية من حقهم المشروع في الانتخاب؛ مؤكدة في السياق ذاته، رغبتها في القيام بتسجيل الشباب البالغ 18 سنة، في القوائم الانتخابية بشكل تلقائي في حال فوزها بمنصب الرئاسة، وحاولت اجتذاب السود في أحد تجمعاتها الانتخابية، عندما رفعت شعار: إن دماء السود لها وزنها وليست رخيصة.
وشهدت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة تجنيداً غير مسبوق للجمعيات الحقوقية التي تريد إحياء أجواء النضال من أجل المساواة العرقية والحقوق المدنية والحريات الديمقراطية التي عرفتها أمريكا في القرن الماضي، لاسيما وأن اليمين الأمريكي بقيادة الجمهوريين يتجنّب - في الأغلب- الخوض في الصراعات العرقية التي تعصف بالمجتمع الأمريكي، بل إن الجمهوريين في أغلبيتهم الساحقة لا يكلفون أنفسهم عناء التنديد بالعنصرية، في محاولة منهم للمحافظة على قواعدهم الانتخابية، التي يزداد جزء معتبر منها تطرفاً وعنصرية، على غرار أقطاب حزب الشاي. ويخلق كل ذلك أجواءً غير مسبوقة من الكراهية والرفض للآخر المختلف؛ حيث أشار سبر للآراء نشرته إحدى القنوات التلفزيونية الأمريكية، أن 6 من بين كل 10 أمريكيين مقتنعون أن العلاقات ما بين الأعراق ازدادت سوءاً خلال السنوات القليلة الماضية، التي تزامنت مع فترة حكم أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
وصفوة القول أن المجتمع الأمريكي يعيش في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخه، أزمة هوية غير مسبوقة بعد أن أضحت الأقليات قاب قوسين أو أدنى من التحوّل إلى أغلبية تقضي على أحلام البيض من أجل تأسيس الجمهورية الخيالية الموعودة، والمشار إليها في كتابات الكثير من الشخصيات والرموز التاريخية الأمريكية. وبالتالي فإن الشعار الذي يحمل عنوان «الحلم الأمريكي» في طريقه إلى التحوّل في نظر الكثيرين إلى كابوس، لأن المجتمع الأمريكي بات يشعر أكثر فأكثر، بأنه عاجز على تحقيق التوازن المطلوب داخل المجتمع، لأن الحلم الأصلي كان يقضي بتوفير أكبر مساحة للنجاح الاقتصادي والتطور الاجتماعي للمواطنين الأمريكيين، ولكن في ظل هيمنة أغلبية بيضاء ترمز إلى الصفاء والنقاء العرقي. أما أن يتحوّل البيض إلى أقلية، فإن المعادلة الهوياتية الأصلية التي تأسّس عليها الكيان الأمريكي ستصبح مهدّدة، الأمر الذي يستوجب بلورة استراتيجيات جديدة من أجل مواجهة هذا الانقلاب العرقي. ويمكننا أن نزعم في هذه العجالة أن الانتخابات الرئاسية المقبلة، ستحدِّد بشكل لافت معالم الخطاب الهوياتي والاستراتيجيات المستقبلية الداخلية، التي سيختارها المجتمع الأمريكي في السنوات والعقود المقبلة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"