العودة إلى الهويات الجامعة

04:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

طفت على سطح التحليلات السياسية والاجتماعية، خلال العقدين الأخيرين، مسألة بروز الهويات الفرعية أو الأولية لأفراد أو مجموعات، والمقصود بهذه الهويات هو النزوع الفردي والجماعي؛ لتعريف الذات أو الجماعة بانتمائها إلى طائفة أو قبيلة أو منطقة بعينها، والنظر إلى الآخرين (الشركاء في المجتمع) بالمنظور ذاته؛ باحتسابهم ذوي انتماءات من هذا النوع، والتعامل معهم على هذا الأساس.
وقد حلّت هذه الهويات (التي تسمى أيضاً هويات صغرى) في وعي جمهرة من الأفراد والمجموعات، محل الهوية الوطنية الجامعة، وفي أضعف الأحوال فقد تقدمت وطغت عليها وأقصتها، كما حلت محل الروابط المدنية؛ كالانتماء إلى مهنة أو نقابة أو حزب أو جمعية.
وفي غير مكان في العالم العربي فإنه يُلحظ بروز هذه الظاهرة، وخاصة في المناسبات التي يتم فيها استنفار الناس وتحشيدهم كالانتخابات النيابية وحتى الانتخابات المحلية البلدية، وانتخابات المهن والجمعيات. ومن اللافت أن الظاهرة أخذت في البروز حتى لدى دول ومجتمعات عرفت بروابطها الاجتماعية المتقدمة، وبغلبة الارتباط بالوطن والدولة على أي ارتباط آخر، كحال مصر التي خذت تبرز فيها ظاهرة الروابط العائلية والمناطقية في الانتخابات العامة. وفي بلد آخر مثل العراق فقد شاعت مفاهيم المناطقية والجهوية والقبلية والطائفية في الحقبة الأخيرة، وقد أسس لهذا الاتجاه «مجلس الحكم»، الذي أنشأه الاحتلال الأمريكي عقب سقوط النظام السابق، والذي قام على المحاصصة المناطقية والطائفية، ثم انعكس ذلك على مختلف نواحي الحياة.
ومما يسترعي الانتباه، أن بروز هذه الظاهرة قد تزامن مع شيوع أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في غير بلد عربي، ما يدل على عجز النخب عن مخاطبة الجمهور والتأثير فيه، وكذلك عجز المؤسسات السياسية الحديثة الأهلية والرسمية منها عن نشر أفكارها ورؤاها وتطبيقها في مفاصل الحياة العامة، وإخفاقها في اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة؛ بل إن هذه الظاهرة طفت على السطح، رغم التوسع في التعليم والتقنيات الحديثة. ويستذكر المخضرمون أن المجتمعات العربية لم تكن تعرف هذه الظاهرة قبل نصف قرن وأكثر في مرحلة مقارعة الهيمنة الأجنبية والكفاح من أجل الاستقلال، رغم أن المجتمعات كانت أقل تعلماً، ورغم محدودية وسائل الإعلام آنذاك، ونقص وسائل السفر والتنقل. ورغم ذلك فقد كانت الهويات الوطنية الجامعة هي الغالبة على وعي الناس، ويرفدها انتماء قومي وروحي وإنساني يتعدى حدود القطر الواحد.
وبطبيعة الحال فإن الهويات الأولية أو الفرعية لم تنبت من فراغ، فالوحدات الاجتماعية من عائلة وعشيرة وقبيلة وطائفة وأبناء منطقة، كانت قائمة وتفعل فعلها في حياة المجتمع والأفراد؛ لكنها لم تكن بمنزلة واحدة أو مؤسسة سياسية، وهو ما آلت إليه لاحقاً بالتدريج والتراكم؛ وذلك نتيجة الإخفاق في مشروع بناء الدولة الدستورية الحديثة، وفي تحقيق التنمية الشاملة، وكذلك الإخفاق في مواجهة التهديدات الخارجية، ومع عجز العلمانيين والليبراليين عن مواجهة موجة الأصولية المتشعبة، التي لم تلبث أن تحولت إلى أصولية اجتماعية وثقافية كارهة للمدن والمدنية؛ وهو ما أدى إلى شيوع أجواء من اللايقين، والنكوص إلى الذات والتقوقع فيها، بفعل جملة العوامل والظروف السابقة، التي تفاعلت ما بينها، وتغذت بعوامل إضافية؛ هي: الفقر والبطالة والنزوح من الريف إلى المدن؛ وذلك جنباً إلى جنب مع شيوع قيم الاستهلاك وبروز حالات ثراء فاحش! ما ولّد مشاعر من الاغتراب النفسي، وجد في الارتداد نحو الهويات الصغرى أقرب شبكة أمان له.
وبما أن بروز هذه الهويات وشيوع الانتماء إليها لم يتم بقرار من أي أحد أو أية جهة، كذلك فإن مغادرة هذه الانتماءات الضيقة، لن يتأتى عبر إجراءات أو سياسات بعينها، أقلّه على المدى القصير، فكما أن ظروفاً موضوعية مركبة ومتجادلة أسهمت في بروز هذه الظاهرة وشقت الطريق أمامها، كذلك الأمر في التطلع نحو استعادة الانتماء بالهويات الوطنية الجامعة والمنفتحة على المشترك القومي والإنساني، والمواكبة للعصر ومعاييره وسننه، فلن يقيض له أن يتحقق إلا ببناء الدول الدستورية الحديثة، التي تحتكم إلى سيادة القانون وعموميته، وإطلاق مشاريع وطنية وقومية كبرى، كما كان الحال عشية الاستقلال وغداته، مع الأخذ بالاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على عالمنا.. والشروع بهذه المهمات تقع على عاتق النخب وأصحاب القرارات وعلى مناهج التعليم ووسائل الإعلام، كما على الجمعيات والروابط الأهلية والمهنية، على أن يقترن ذلك بتنمية وطنية شاملة، تُعلي من شأن كل ما هو جامع ومشترك، وبما يضع الانتماءات الضيقة في حجمها الطبيعي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"