المتوسط.. مقبرة بحرية

04:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

لطالما اقترنت مناطق البحر الأبيض المتوسط باعتدال المناخ والتنوع البيئي وطيب العيش. كما نشأت على ضفاف هذا البحر حضارات قديمة كالفرعونية والفينيقية والرومانية، وازدهرت عواصم وحواضر، حتى إن بعض المفكرين صنفوا أنفسهم على أنهم متوسّطيون، ومنهم المفكر المصري حسين فوزي. وقد جمع هذا المسطح المائي الكبير من دون أن تكون له مهابة المحيطات، بين قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا.
على أن الصفة المتوسّطية للبلدان المشاطئة لهذا البحر، لم تشفع لبعضها التمتع بالحرية والأمان، فيما دفعت دولاً أخرى إلى التمدد والهيمنة كحال إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، مقابل دول تعرضت لحملات استعمارية من هذه الدول كالجزائر والمغرب وتونس وليبيا ولبنان وسوريا. بل إن الغرب وبعضه متوسّطي قد تواطأ لمحو هوية ووجود بلد متوسطي هو فلسطين.
تعنّ هذه التداعيات على الخاطر مع تحول البحر الأبيض المتوسط في العقد الزمني الأخير إلى ما يشيه مقبرة بحرية، أو مدفناً مائياً لآلاف البشر الذي يخوضون عبابه التماساً للرزق على الشواطئ الغنية بعد أن عزّ الزاد في بلدانهم، أو نُشداناً للخلاص من عسف وحشي، وفي حالات أقل بحثاً عن المغامرة ولبناء حياة أفضل في المتوسط الأوروبي.
يذكر تقرير حديث للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن 1500 لاجئ قضوا وهم يحاولون عبور المتوسط وذلك خلال الأشهر السبعة الأولى فقط من العام الجاري 2018. وهو رقم مهول يكشف عن فداحة هذه المأساة المركبة التي لا تجد فصولها الأليمة نهاية لها. وتوفر الشبكة العنكبوتية إحصائيات وأرقاماً عن ضحايا بالآلاف سقطوا في معركة غير متكافئة مع المياه العميقة. وتجتمع في هذه المأساة المتوالية عناصر عدة في مقدمها أن البلدان التي ينتسب إليها الضحايا هي بُلدان طاردة، لا تتوفر على ظروف تسمح بالتطلع إلى عيش كريم حتى ولو في الحدود الدنيا، ولدرجة لا يتوانى الضحايا معها عن المغامرة بحياتهم في سبيل الفكاك من ظروفهم الخانقة. وتغدو الكارثة أكثر وضوحاً لدى التبصر في كون من يعتزمون اللجوء يقررون ذلك أيّاً كان الثمن، ومع إدراكهم بأن آلافاً قد سبقوهم إلى المحاولة، وقضوا دون أن يبلغوا هدفهم.
ومن المؤسف أن إجراءات مكافحة «الهجرة غير المشروعة» بين البلدان المعنية لم تحرز نتائج شافية أو كافية، بدليل استمرار محاولات اللجوء عبر خوض عباب المتوسط مقرونة بسقوط الضحايا وهذا عنصر ثانٍ من العناصر التكوينية لهذه المأساة. إذ إن الإجراءات الأمنية على أهميتها غير كافية لوضع حد لهذه المأساة، في غياب حلول اقتصادية واجتماعية وسياسية ملموسة، ومع غياب التعاضد المطلوب لإطلاق مشاريع تنموية طموحة تشارك فيها الدول الجاذبة للهجرة أو اللجوء.
أما العنصر الثالث في نشأة هذه الظاهرة المتفاقمة، فيتمثل في ضرب من ضروب الاتّجار بالبشر، فأغلب الضحايا يقضون غرقاً على مراكب غير مهيأة للنقل البحري المأمون. ولا شك أنها تجارة واسعة ومنظمة هذه التي يتم فيها نقل ما لا يحصى من البشر في ظروف ارتجالية، وبغير الحد الأدنى من التجهيزات أو معايير سلامة النقل، ناهيك عن الطابع اللاشرعي وغير القانوني لعملية النقل العشوائي هذه. ولا بد أن أطرافاً عدة تلتقي مصالحها في تنظيم عملية نقل مهاجرين إلى المجهول. أما مصالح المدبّرين والمنظمين فهي معلومة وتتمحور حول الاتّجار بالبشر، وتعريضهم لخطر الموت الأليم الذي كثيراً ما تختفي فيها جثامين الضحايا في أعماق البحر. أما المخططون والمنفذون فإن خبراتهم الآثمة تسمح لهم بالنجاة وجني المال الحرام، وحتى بالاختفاء عن الأنظار دون أن تنالهم يد العدالة والمساءلة.
في هذا الإطار فقد حثّت المفوضية السامية في تصريحات، نقلها ناطق رسمي باسم الأمم المتحدة الدول والسلطات، على طول طرق العبور، على اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتفكيك شبكات المهربين وتعطيلها. وشددت المفوضية على أنه ومن «أجل إنقاذ الأرواح في البحر، يجب استخدام التدابير المناسبة والضرورية لمحاسبة من يسعون إلى تحقيق الربح عبر استغلال البشر الضعفاء»
ومع ما يرتديه هذا الموقف من أهمية لمكافحة هذا اللون المتفشي من الاتّجار الفاضح بالبشر و التربّح من مأساتهم، فإن السؤال المرتسم يفيد أنه: إذا كان المهرّبون ينجحون في استثمار محنة البشر والتكسب منها، فما العمل إذا كان الضحايا أنفسهم مستعدين للمغامرة أو للمقامرة بحياتهم للنجاة من واقع قاسٍ ولو بالذهاب إلى المجهول، وتعريض حياتهم لخطر داهم؟ فالأصل أن تعالج المأساة في مهدها، في الظروف المؤسسة لهذه الظاهرة وذلك بمنح البشر آمالاً واقعية وبتفعيل العدالة الاجتماعية وكل أشكال العدالة الأخرى وأن يتوقف تبخيس حق الإنسان في حياة كريمة بعيداً عن إغراءات الهجرة الخادعة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"