المزيد من مظاهر الحرب الباردة

04:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

الأجواء التي تخيم الآن على العلاقة بين المراكز الدولية أو بين روسيا من جهة وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة من جهة أخرى، تكاد تكون أسوأ من الأجواء، التي سادت خلال الحرب الكونية الباردة. ومع أن هناك أسباباً وعوامل مختلفة ومتراكمة أدت للوصول إلى المأزق الحالي، إلا أن واقعة تسميم الجاسوس الروسي المزدوج سكريبال مع ابنته في لندن، وما نجم عنها من تداعيات مسّت العلاقات البريطانية - الروسية، قد دفعت الأمور نحو أزمة ثقة عميقة لا سابق لها منذ انقشع غبار الحرب الباردة قبل نحو ثلاثة عقود.
يقول المرء، إن الوضع حالياً هو أسوأ مما كان عليه الحال خلال انقسام العالم إلى معسكرين كبيرين؛ لأن الآمال بنهاية التضاد السياسي والأيديولوجي باتت عرضة للتبدد؛ ولأن الانقسام السابق كان يسمح ببروز خلافات كبيرة؛ بل إن تلك الخلافات هي جوهر الانقسام، وعلى سبيل المثال فقد كان اكتشاف جواسيس بين الطرفين يعد أمراً معهوداً و«مفهوماً» وقابلاً للاحتواء، أما في الآونة الحالية فيفترض أنه ليس هناك أي صراع تناحري على النفوذ والاستقطاب؛ بل هو تنافس تجاري وعلمي وصناعي، مع احتفاظ كل طرف بطموحاته القومية الخاصة به، التي لا تهدد، أو يتعين ألّا تهدد حالة الوفاق الدولي. ولطالما وصف الرئيس بوتين ووزير خارجيته الغرب بأنهم «شركاؤنا» فيما لم تعد روسيا في منزلة العدو أو الخصم في الغرب سوى لدى الدوائر المحافظة، وكما عكست ذلك استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي تم الإعلان عنها في مطلع الجاري.
فيما تشير العقوبات المتتابعة على روسيا من طرف واشنطن، بأن عودة ملحوظة قد جرت إلى أجواء القرن الماضي. ومن المفارقة أن الشهور القليلة الماضية تميزت بتبادل التهديدات الخطرة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، وما خلفته من موجة تشاؤم كبيرة، وإذا بالأمور تتزحزح وتتحسن بين بيونج يانج وواشنطن، فيما حادثة التسميم، باتت تسمم علاقات لندن بموسكو، مع وقوف باريس وواشنطن إلى جانب لندن في الإجراءات، التي اتخذتها الأخيرة.
ويسترعي الانتباه أن هذا التصعيد قد جاء في ظرف روسي حساس؛ وذلك مع إجراء انتخابات رئاسية في روسيا، تراهن خلالها القيادة الروسية على أن تكون هذه المناسبة فرصة لإجراء ما يشبه استفتاء على المطامح القومية شبه العلنية، التي تعبّر عنها القيادة الروسية. ومع القناعة أن هذا التصعيد لن يؤثر بدرجة كبيرة في وجهة الانتخابات الروسية، إلا أن التطلعات العامة نحو تعزيز الوفاق الدولي بدأت تنحسر، وفي وقت يعتبر فيه كثيرون، أن روسيا باتت تعيش في أجواء سوفييتية، وأنها بحاجة إلى عدو؛ من أجل شحذ المشاعر القومية، وهو ما يقابله من شيطنة لروسيا في الولايات المتحدة وبريطانيا، بالاستناد إلى أمور كثيرة لا تقتصر على الموقف مما يجري في الغوطة الشرقية قرب دمشق منذ مطلع مارس/آذار الجاري.
ويسترعي الانتباه في هذا المجال أن بكين تسعى لإبقاء مسافة بين مواقفها على الساحة الدولية، وبين الموقف الروسي، وإن كانت تلتقي مع موسكو على أن هناك تنافساً ضارياً مع الغرب، الذي لا يكف عن محاولات توسيع نفوذه العسكري، وهو موقف شديد الشبه بما كان يجري أيام انقسام العالم إلى معسكرين، ففي داخل المعسكر الواحد وهو الاشتراكي كانت روسيا والصين تتباعدان في أمور كثيرة وتتنافسان بشدة؛ لكنهما تتقاربان في الموقف من الغرب الرأسمالي، وبما يعزز الاستنتاج بأن أجواء الحرب الباردة قد عادت بالفعل، مع الانطباع بأن الأجواء الحالية أسوأ من ذي قبل؛ كونها جاءت بعد مرحلة وفاق وانفراج دوليين دامت لنحو ربع قرن من الزمن، وبعد تأكيدات من سائر الأطراف بأن الماضي لن يعود، وبعد الانتظام في أطر ومجموعات دولية مشتركة مثل مجموعة الدول الثماني، التي تجمع الدول الصناعية ومن ضمنها روسيا، ومثل مجموعة الدول العشرين، التي تضم الصين وروسيا إلى جانب الدول الصناعية الغربية.
ويبقى أن عودة الأجواء السابقة لا تحمل وعوداً لأحد، وترهق الاقتصادات، وتعزز سباق التسلح؛ بما يجعل التنافس يحمل طابعاً عسكرياً وتسليحياً محضاً، وبما يجعل العالم يعود لنحو قرن إلى الوراء، إلى زمن الإمبراطوريات والتطلعات الإمبراطورية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"